ولا مناص من توزيع الثروة توزيعا يمتنع به التفاوت، فإن الاستبداد - كما قال في طبائع الاستبداد - هو الذي جعل «رجال السياسة والأديان ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يتجاوز الخمسة
1
في المائة يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة.»
قال: «وإن أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهين والمحتكرين وأمثال هذه الطبقة - ويقدرون كذلك خمسة في المائة - يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع، وهذه القسمة المتفاوتة بين بني آدم وحواء إلى هذه النسبة المتباعدة هي قسمة جاء بها الاستبداد السياسي.» كما قال وكرر المقال مما نعود إلى بيان رأيه المفصل فيه عند الكلام على برنامجه المختار لإصلاح الحياة الاقتصادية.
ويقتضي التساوي بذلك - الطبقات على هذا المبدأ - ألا تستأثر طائفة من الأمة بإنجاب أهل العلم والدراية؛ بل يكون حكماء الأمة - كما قال بلسان الحكيم الصيني - «من أي طبقة كانت من الأمة؛ إذ قضت سنة الله في خلقه ألا تخلو أمة من الحكماء».
ولا فرق بين طائفة وطائفة في التخلق بأخلاق الاستبداد متى قام الأمر على الحكم المطلق وامتنعت المساواة في الحقوق بين الناس؛ «فإن الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها؛ من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا؛ لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته، شرهون لأكل السقطات من ذبيحة الأمة، وبهذا يأمنهم ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. هذه الفئة المستبدة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له، والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان، واحتاج إلى حفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا ...» •••
والكواكبي يذكر السلف الصالح للاقتداء به في أخلاق الرعاة والرعايا، ولكنه يحذر قارئه ويعيد التحذير مرة بعد مرة من الخلط بين الاقتداء بأخلاق الحاكمين الأولين وبين الدعوة إلى تقديس أولئك الحاكمين أو إحاطتهم بهالة من عصمة الربوبية أو الرسالة، فإنه - مع تقريره أن الخلافة الإسلامية لم تثبت من قبل لغير الخلفاء الراشدين وآحاد معدودين من أمثال عمر بن عبد العزيز - يرى أن الفصل بين الملك والخلافة ضرورة لا محيص عنها؛ كي يتسنى للرعية أن يحاسبوا ولي الأمر ويقيموا ولاية الأمر على أساس الحكومة المسئولة، وقد يحال بينهم وبين ذلك بانتحال صفة القداسة التي يعتصم بها الخليفة من محاسبة رعاياه ومراجعة الأمة في مجموعها لسياسة الدولة.
ولا اكتراث للصور والأشكال في كل ما تقدم من قواعد الحكم وأنظمته وسائر شروطه، فكل صورة من صور الحكم حسنة نافعة إذا تحققت فيها المحاسبة، ولحقت فيها تبعات الحكم فعلا بمن يتولاه، وكل أمة قادرة على محاسبة حكامها إذا عمت فيها المساواة الحقوقية وامتنع فيها التفاوت البعيد في الأرزاق والأقدار، وانجابت عنها غشاوة الغفلة بين عامة أهلها وارتفع إلى مكان القيادة من استعد بكفايته ودرايته لقيادتها، كائنا ما كان منشؤه من عامة طبقاتها.
الفصل السابع عشر
النظام الاقتصادي
صفحة غير معروفة