وقد صرح الكواكبي بالحل الملائم لهذه المشكلات السياسية والقانونية لبلاد العرب، ولبلاد الدولة عامة، في أطوار الانتقال، فقال في هامش الصفحة التي سرد فيها أسباب الخلل من أم القرى: إن «من أهم الضروريات أن يحصل كل قوم من أهالي تركيا على استقلال نوعي إداري يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم، كما هي الحال في إمارات ألمانيا وولايات أمريكا الشمالية، وكما يفعله الإنكليز في مستعمراتهم والروس في أملاكهم».
وفحوى هذا الحل أن يؤخذ الذي عرف بعد ذلك باسم «اللامركزية»، وشعر ساسة الترك أنفسهم بضرورته بعد تفكير الكواكبي فيه بسنوات، فهو - ولا ريب - رائد الدعوة اللامركزية التي جهر بها «حزب الائتلاف والحرية»، وضم إليها أناسا من زعماء الترك والعرب وبعض الأقوام المشتركين في تركيب السلطنة العثمانية، وكانوا ينادون بالائتلاف لتكوين السلطنة من الشعوب المتآلفة مع استقلالها بحكوماتها الذاتية، وينادون بالحرية لتغليب حقوق الشعوب في سياسة أمورها على حقوق السلطنة المتفردة بالحكومة المركزية، ويقابلون بذلك دعوة المركزيين المعروفين باسم حزب الاتحاد والترقي، يريدون بذلك أن تكون الوحدة المركزية في الدولة غالبة على الائتلاف، وأن تكون حجة «الترقي» بقيادة الرئاسة الحاكمة غالبة على حجة المطالبة بالحرية لكل ولاية على انفراد.
ولا يلجئنا مؤلف «طبائع الاستبداد» إلى مراجعة واستنباط للعلم بصفة الحكومة التي يختارها ويسعى إليها، فلا بد أن تكون - بالبداهة - حكومة غير مستبدة أو «حكومة مسئولة».
أما العنوان الذي يطلق عليها في مصطلحات العلم السياسي فينبغي أن يتوافر لها بين الشروط الكثيرة شرطان على الأقل من شروط الحكومات المسئولة؛ وهما أن تكون «ديمقراطية اشتراكية ».
وقد عرف الاستبداد تعريفين يختلفان بعض الاختلاف لفظا ويتفقان كل الاتفاق في المعنى والنتيجة.
فالاستبداد - كما قال في مقدمة طبائع الاستبداد - هو «التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى».
أو هو - كما قال بعد ذلك - «تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة».
ويمتنع الاستبداد - نظرا وفعلا - بقيام الحكومة المسئولة، وأفضل هذه الحكومات التي تجتمع لها مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، وتتراءى هنا طبيعة التفكير العملي التي تمتزج بآراء الكواكبي في كل مسألة يتسع فيها مجال البحث والمناقشة، وتتساوى فيها وجوه النظر عند تحقيق نتيجتها العملية وضمان المصلحة المنشودة بضمان تلك النتيجة.
فليست العبرة عند الرجل العليم بمنافذ الاستبداد أن يتوافر للحكومة شكل من أشكال الدستور وصورة من صور الحقوق الكثيرة التي ترشح أفراد الرعية للنيابة أو الانتخاب، وإنما المهم في جميع الأشكال على تعدد المصطلحات والدساتير أن يكون ولي الأمر مسئولا عن عمله محاسبا عليه، وأن يمتنع عليه الاستبداد، وهو التصرف بالهوى والأمان من التبعة «بلا خشية حساب ولا عقاب محققين».
فلا يمتنع الاستبداد بامتناع حكومة الفرد، ولا يتحقق الحكم الصالح باشتراك الكثرة فيه أو بتأييد الكثرة للحاكمين المتعددين، أو كما قال في المقدمة: «إن صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو بالوراثة، تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب، وكذلك تشمل حكومة الجمع ولو منتخبا؛ لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعا، وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد، ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ؛ لأن ذلك أيضا لا يرفع الاستبداد ولا يحققه ما لم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التي تعرف أن تراقب وتؤدي الحساب.»
صفحة غير معروفة