إن أجدادي - لوالدتي - سلالة كردية تفرعت أصولها زمنا بين ديار بكر وأورفة ومرعش، ورأيت آخر من لقيته منهم يلبس العمامة الخضراء كما يلبس الطربوش العثماني والقلنسوة الكردية، ولم يزل بيت أخوالي في البلدة يعرف ببيت الشريف، ويسجل في مكاتب البرق بهذا العنوان.
وكنت أسأل كبراء السن منهم مازحا: من أين لكم هذا الشرف وأنتم سلالة أكراد؟ فكانوا يذكرون لي قصة طويلة عن اتصالهم بالمصاهرة بمن جاورهم من آل البيت في مدن الإيالة، ويذكرون جيدا كل صلة لهذه المدن بعواصم الإيالات مع ارتباك العلاقة يومئذ بين الديار الكردية وعواصم الإيالات العثمانية، تارة إلى حلب وتارة إلى العراق.
وأقرأ في الكتب الأوروبية على الخصوص أحاديث شتى عن «الرءوس الخضر» في حلب، أولئك الذين يلبسون العمامة الخضراء ممن ينتسبون إلى آل البيت من جانب الآباء أو جانب الأمهات، ومن هؤلاء أكراد أمهاتهم عربيات.
وتنتسب إلى هذه الطائفة من لابسي العمامة الخضراء أسرة أسوانية أخرى، مضى على وفود كبيرها من موطنه أكثر من مائة سنة، وأذكره في أخريات أيامه بعمامته الخضراء وموكبه من أتباع الطرق الصوفية التي تتشعب فروعها في البلاد العربية والتركية، وهو مع اشتغاله بالتصوف تاجر ناجح ورأس أسرة ناجحة ينتمي إليها اليوم الطبيب والمحامي والموظف والتاجر ومالك العقار.
وقد وفد العسكريون والمدنيون من أصحاب هذه العمائم إلى الصعيد بعد ثورات دامية في ولاية حلب على ولاتهم الترك الذين أجلاهم جيش إبراهيم باشا عن الولاية بعد قليل، فلما أعيدت هذه الولاية إلى الدولة التركية تعذر مقامهم فيها؛ فعادوا مع الجيوش المصرية، وأقام بعضهم في الصعيد وبعضهم في السودان.
ولعل «عبد الرحمن الكواكبي» الذي ولد بعد هذه الحوادث بسنوات قلائل، كان يتحدث في صباه بحديث واحد عن نقابة الأشراف التي ادعاها غير أهلها في القسطنطينية، وعن حكام الترك الذين انتزعوا مناصب أبناء الوطن في الديار الكردية؛ وهو الحديث الذي ردده هؤلاء المهاجرون الحريصون على شارتهم وشارة أهليهم في بلادهم، وظلوا يرددونه على وتيرته حتى سمعناه منهم مرات!
ولو أن إنسانا يختار لنفسه رسالته ومولده لما اختار عبد الرحمن مولدا أصلح للرسالة التي نهض بها من مدينة حلب: مدينة تتصل بالحوادث وتتصل الحوادث بها، هذا الاتصال. •••
إنني علمت من تجربتي في قراءة التراجم وكتابتها أن النوابغ من أصحاب الرسالات فئتان: فئة تظهر في أوانها؛ لأن أسباب نجاحها تمهدت، وتم لها النجاح قبل فوات ذلك الأوان.
وفئة أخرى تظهر؛ لأن الحاجة إليها قد بلغت غايتها، وهي التي تظهر لتحقق تلك الحاجة التي تبحث عن صاحبها، وله منها معين يذلل صعابها ويهدي إلى طريقها.
والكواكبي نموذج عزيز المثال لأولئك النوابغ أصحاب الرسالات الذين اتفقت لهم أسباب زمانهم ومكانهم وأسباب نشأتهم ودعوتهم، تكاد سيرته أن تغري بالكتابة فيها؛ لأنها «تطبيق» محكم لتراجم هذه الفئة من نوابغ الدعاة.
صفحة غير معروفة