وقد اصطدمت العقائد الدينية في الغرب بكشوف العلم الحديث ومذاهب التفكير العصرية، فاضطربت الأفكار وشاعت الشكوك ونزع الكثيرون من الناشئين إلى التعطيل وإنكار الدين، واقترن الإنكار بإباحة المحرمات والترخص في الشهوات والاسترسال مع غواية الحياة المادية التي وافقت أهواء المنكرين، فخيل إلى الناس في أمم الحضارة الغربية أن الدين مسألة مفروغ منها قد لحقت بآثار القرون الغابرة، وأن التحدث عن الإصلاح الديني مشغلة فراغ يضيع فيها الوقت على غير جدوى.
واقتربت هذه الصدمة من الشرق مع اقتراب العلوم الحديثة والدعوات الاجتماعية المتطرفة، فكان لها أثرها الطبيعي بين المسلمين وغيرهم من الشرقيين على حسب نصيبهم من العلم العصري والتربية الدينية وتقاليد المعيشة البيتية.
فمن المتعلمين على النظم الأوروبية طائفة أخذت بالقشور من العلم الحديث، وقل نصيبها من معرفة الدين، واستهواها حب التشبه بالأقوياء الظافرين، وخلبتها فتنة الحضارة وزخرف الحياة المادية، فتحللت من أواصر دينها وهان عليها أمر العقيدة وأمر الوطن، فلم يبق لها من الغيرة الدينية ولا من النخوة القومية غير المظهر والعنوان.
والكواكبي ينفض يديه من هذه الطائفة ولا يرتجي منها خيرا لإصلاح دينها ولا لإصلاح دنياها، وفيها يقول من كلامه في الاجتماع الثامن من مؤتمر أم القرى: «وأما الناشئة المتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم؛ وذلك لأنهم لا خلاق لهم، تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت، لا يتبعون مسلكا ولا يسيرون على ناموس مطرد؛ لأنهم يحكمون الحكمة فيفتخرون بدينهم، ولكن لا يعملون به تهاونا وكسلا، ويرون غيرهم من الأمم يتباهون بأقوامهم فيستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم ولا يقوون على ترك التفرنج كأنهم خلقوا أتباعا، ويجدون الناس يعشقون أوطانهم فيندفعون للتشبه بهم في التشبيب والإحساس فقط دون التشبث بالأعمال التي يستوجبها الحب الصادق، والحاصل أن شئون الناشئة المتفرنجة لا تخرج عن تذبذب وتلون ونفاق يجمعها وصف لا خلاق ... والواهنة خير منهم متمسكون بالدين ولو رياء، وبالطاعة ولو عمياء.»
والجامدون الذين سماهم بالواهنة وقال عنهم إنهم متمسكون بالدين ولو من قبيل الرياء، يفترقون إلى فريقين؛ بين جاهل لا يعرف شيئا من العلم الحديث ولا من علوم دينه، ومتعلم درس الدين على أساتذة من المقلدين مزجوا الدين بالخرافة، ولم يسلموا من علل الوهن والنفاق، وكلا الفريقين يجهل علوم دينه كما يجهل علوم عصره، وتصدمه هذه العلوم الحديثة صدمة الجديد المستغرب فينفر منها ويتبرم بها ويحذرها حذره من الكفر البواح، ولا يكلف نفسه مئونة البحث؛ لأن مجرد البحث فيها مدرجة إلى الكفر وأحبولة من أحابيل الضلال.
وهذه الطائفة هي «المصاب» الذي يراد الإصلاح الديني لتقويمه وإخراجه من ظلماته، فلا أمل في معونته على رسالة الإصلاح.
والطائفة المثلى - ومنها الكواكبي - طائفة الرواد السابقين الذين أفلتوا من إرهاق الجمود وتمردوا على أوهام الخرافة واطلعوا على حظ حسن من العلم الحديث، فوضح لهم أنه يرتهن به التقدم وتستمد منه القوة التي يصول بها الأوروبيون على بلادهم، وأنه هو العلم الذي يدعوهم إليه كتابهم ويحضهم عليه في كل آية من آيات الأمر بالتفكير والتدبر والنظر في ملكوت السماء والأرض والعمل الصالح في سبيل الدين والدنيا.
وتنقسم هذه الطائفة أيضا إلى فريقين: أحدهما يرى أن العلم الحديث مطلب مباح، بل فريضة واجبة توافق الدين ولا تناقضه في جملتها ولا في تفصيلاتها.
والفريق الآخر يذهب وراء هذا الاعتقاد في العلوم الحديثة خطوة أو خطوات، فيحاول أن يبين مكانها من القرآن الكريم ، وأن يردها إلى آيات تحتويها وتتقبل التفسير بمعانيها، وكذلك صنع الكواكبي - رحمه الله - فيما كتبه بقلمه أو فيما أسنده إلى غيره، وأفاض فيه بكلامه عن الاستبداد والدين في طبائع الاستبداد حيث يقول: ... لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات لرأوا في آيات القرآن آيات من الإعجاز، ورأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
صفحة غير معروفة