وكان إسماعيل صوفيا مثل أفراد عائلته وليس له أعداء وأعوانه كثار، فرأى بعد الإمعان أن يدخل مذهب الشيعة الاثني عشر الجعفرية إلى إيران ويجعلها مذهب السلطنة، ففعل ذلك وفاز بمراده، ولم يلق معارضة تذكر؛ لأن الإيرانيين عدوا هذا الانفصال استقلالا لهم، وفضلوا مذهب القائلين بتكريم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن ذلك اليوم صارت بلاد إيران مقر الشيعة بين المسلمين، وعصت خراسان وبلخ وغيرها من الولايات أمر السلطان إسماعيل في بدء حكمه على عادتها، فحاربها كلها وانتصر عليها، وامتد نفوذ هذا السلطان امتدادا عظيما حتى رزق عدوا كبيرا لم يقدر عليه، هو السلطان سليم العثماني الشهير، قصد بلاد إيران بخيله ورجله البالغ عددها مائة وخمسين ألفا ومائتي مدفع، وذلك بغتة دون مخابرات دولية لدى الحكومات، وقام إسماعيل لمحاربته بكل ما لديه من القوة وهو يومئذ بهمدان يطلب الصيد والقنص، ودافع عن بلاده في جلدران بخمسة عشر ألف نفس بأذربيجان، فتقهقر أمامه وكسر شر كسرة مع أنه أظهر في الحرب بسالة غريبة، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والإيرانيون بالسلاح القديم، غير أن انتصار الأتراك لم يؤثر في إيران؛ لأنهم اضطروا إلى الرجوع في الشتاء لشدة البرد وقلة الزاد، ولكن إسماعيل ظل حزينا من بعد تلك الكسرة إلى آخر أيامه، ويروى أنه لم يضحك من بعد ذلك اليوم، ولم يترك لبس السواد أيضا، ولما مات السلطان سليم تقدم إسماعيل على بلاد الأتراك للأخذ بالثأر، فأخضع بلاد الجركس وهي يومئذ تابعة للأتراك، وعاد عنها فعرج على أردبيل ليزور قبور أجداده، فقضى نحبه هناك ودفن فيها مأسوفا عليه ...» •••
ترى هل نرى في تاريخ هذه الشعبة من أردبيل ما يأبى أن تلحق به تتمة تلائمه من تاريخ الشعبة الكواكبية؟ إن تاريخ الأسلاف ليسبق في الزمن كالمقدمة التي تنتظر البقية من أعمال الخلفاء والأبناء، وما أحرى عبد الرحمن أن يكون البقية المنظورة لمقدمة صدر الدين! وما أحرى الأسرتين أن يتسلل فيهما نبع واحد من النجدة والورع والهمة والصلابة والسماحة، تشابه فيمن عرفناه منهما حتى الآن على تنوع المواضع والميادين!
شيء واحد يستوقف المؤرخ من اختلاف الشعبة الصفوية والشعبة الكواكبية، ولكنه اختلاف متوقع ينفي كل ما فيه من الغرابة بانتظار وقوعه على الوجه الذي صار إليه.
فالشعبة الصفوية أخذت بمذهب الشيعة الإمامية حين قام منها الأئمة على عرش إيران، والشعبة الكواكبية تدين بمذهب أبي حنيفة من أئمة السنة؛ لأنه المذهب الذي غلب على المدينة حيث درجوا وتعلموا وأنجبوا الأبناء المتعلمين والأساتذة المعلمين، وربما كان من أتباع صدر الدين أحناف كثيرون كما يعلم من كثرة مريديه من الترك المنتقلين إلى إيران في أسر السلطان تيمور.
وقد كان اتباع الكواكبي للمذهب الحنفي لا يمنعه أن يدعو إلى وحدة المذاهب وإقامة الإمامة على غير قواعد الخلافة في الدولة العثمانية، فربما كان هذا التصرف بين الشعبتين على المنهج المنتظر من كليهما قرابة باطنية تمحو ما يتراءى للنظر من ظواهر الاختلاف.
الفصل الرابع
النشأة
الطفل أبو الرجل
صدق من قالها بما عناه من لفظها ومعناها، فإن الرجل الكبير يتولد من الطفل الصغير، فهو وليده وسليله على هذا التعبير.
وقد كان عبد الرحمن الصغير أبا مبكرا للرحالة المجاهد المفكر الحكيم صاحب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» ورائد النهضة العربية في طليعة الرواد.
صفحة غير معروفة