إن العقبات والصدمات محتومة دائما في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة في ظل واقع شديد التعقيد، وأول من يجب أن يميزها ويراها على حقيقتها هو الفيلسوف المفكر «اليساري».
ولكن الدكتور فؤاد زكريا ينفي ذلك تماما، ويؤكد أنه لم تقم أي اشتراكية، وأن ما تم لم يكن غير فاشية أهدرت مصر والمصريين، وكان خليقا بالماركسيين وهم الاشتراكيون الحقيقيون أن يكشفوها ويفضحوها، لا أن يباركوها ويذوبوا في تيارها بكل المآسي والفواجع التي حدثت.
ولم يحجم الدكتور - خلال تجريده للاشتراكية الناصرية من كل صفة أو مزية - عن الواقع في سلسلة من المتناقضات تبلغ حد العبث.
فهو يقر مثلا أننا كنا نعيش قبل الثورة في ظل «إقطاع من القرون الوسطى ورأسمالية من القرن التاسع عشر» ويقر أن الثورة قد أخرجتنا وخلصتنا منهما، وأن هناك «من يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء»، أي بعد أن دفعتها الثورة إلى الأمام، ولا شك أن الخروج من مقبرة القرون الوسطى وفظاعة القرن التاسع عشر كان يكفي الثورة فخرا، ولكن الدكتور يعود ليكرر ويؤكد أن الثورة سحقت المصريين، ولم تفعل سوى أن أضافت شريحة إلى المستغلين والمستبدين!
ولكي يدلل الدكتور على صحة دعواه فهو يقول إننا حتى الآن لا زلنا نستعمل الألقاب ... ولو كانت الثورة اشتراكية حقا، لكانت قد استطاعت أن تمحو الألقاب محوا من ذاكرة الشعب وحياته اليومية ... وهو دليل فريد بالطبع.
فالدكتور لا شك عاش ولا زال يذكر العصر الذي كان المجتمع فيه ملكيا، وكان على قمته ملك يلقب بحضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله، ثم يليه أمراء يلقب بعضهم بحضرة صاحب السمو الملكي ويلقب الآخرون بصاحب السمو الملكي فقط، ثم يتلوهم نبلاء يلقب بعضهم بحضرة صاحب المجد النبيل، ويلقب بعضهم بالنبيل فقط بلا مجد!
ثم يأتي بعدهم باشوات بعضهم لا بد أن يلقب بحضرة صاحب المقام الرفيع، وبعضهم حضرة صاحب السعادة، وبعضهم صاحب السعادة فقط ، وآخرون بحكم مناصبهم صاحب المعالي ... وتنتهي الألقاب بالبكوات وبعضهم من الدرجة الأولى، ويلقب بحضرة صاحب العزة، والآخرون درجة ثانية (صاحب العزة فقط) ثم محيط واسع تحت كل هؤلاء من الأفندية، ويذكر الدكتور أيضا أنه كان هناك مجتمع آخر من الأجانب بألقابهم الخاصة، وتتراوح بين اللورد والسير والكونت والبارون وأحيانا ممن يجمع بين السؤدد والمجد وبين كلا النوعين، وبغير ألقاب، أو بألقاب منتحلة ومصطنعة، كانت هناك فئات فوق فئات وطبقات فوق طبقات، ومن الأعيان والمشايخ أصحاب الوجاهة والفضيلة والحسب والنسب، ثم جيش من النفاية الأوروبية وجيش آخر من النفاية العثمانية، لا هم مصريون ولا عرب ولا خوجات، ويتعالون على القاع الذي يرسف فيه الملايين من المصريين المسحوقين والمجردين من كل شيء.
فإذا لم يبق من هذا المجتمع بعد عشرين عاما من الثورة سوى لقب «بك» يستعمل مجاملة ويموت تدريجيا، أو بعض مخلفات ترى في ألقابها كل حياتها، فهل هذه هي الخطيئة الكبرى التي يستدل منها على فشل الاشتراكية في مصر؟
إن العادات والعبودية تموت موتا بطيئا، أشد بطئا مما يقدر الثوار ... وذلك كما لا بد وقد درس الدكتور في علم الاجتماع!
على أن الدكتور لا يكتفي بهذا، إنما يقدم دليلا قاطعا آخر على فشل الاشتراكية: وهو الاستقبال الذي لقيه نيكسون في مصر.
صفحة غير معروفة