وكانت كل الثورات والانتفاضات تبحث كل منها عن الأخرى، وترى فيها امتدادا وسندا متبادلا، وكانت كلها تبحث عن محور أساسي تلتف حوله، وطليعة وقيادة تاريخية تتقدمها، وهنا قدمت ثورة 23 يوليو كل ما كان مفتقدا.
ومنذ نهاية الحرب انتفضت شعوب آسيا وملايينها ضد الاستعمار والإمبراطوريات الأوروبية القديمة، والتي اكتسحها اليابانيون خلال الحرب، ولكن عادوا بعد استسلام اليابان يريدون استئناف استعمارها كأن شيئا لم يحدث، وتتالت الثورات عنيفة عارمة ضد البريطانيين والفرنسيين والهولنديين وامتدت الثورة الآسيوية إلى أفريقيا وإلى أمريكا اللاتينية، وهي القارات الثلاث التي وقعت عليها كل وطأة الاستعمار واستنزافه ... والتي قام بها «عالم ثالث» بين العالم الغربي الاستعماري والعالم الشرقي الاشتراكي.
وبدأت الدول المتحررة والثائرة تبحث عن تكافل جماعي فيما بينها، يواجه الكتلتين ويحمي استقلال من استقلوا، ويقف مع كفاح من لا زالوا يحاربون من أجل حريتهم؛ فالحرية واحدة لا تتجزأ، والاستعمار في أي مكان تهديد للاستقلال في كل مكان.
وهكذا قامت مجموعة باندونج وجبهة الحياد وعدم الانحياز، وكانت مصر أحد أعمدتها الرئيسية، والجسر المتين الذي يربط الآسيويين بالعرب وبالأفريقيين، والقيادة الفتية المتحدية في المنطقة الحاسمة.
وبعد قيام مجموعة باندونج ووضوح أهدافها، وتأكيد قوتها وقدرتها غيرت الكتلة الشرقية الاشتراكية موقفها، ولم يعد هناك اختياران فقط أمام الدول التي تحررت، اعترفت الكتلة الاشتراكية بدولتيها الرئيسيتين (الصين والاتحاد السوفيتي) بالطريق الثالث، وبحق كل دولة لا تنحاز لأي من الكتلتين وبأن هذا هو تأكيد للاستقلال وحق تقرير المصير، ومساهمة وضمانة لتحقيق السلام، بينما أصرت الكتلة الغربية على رفضها للحياد وعدم الانحياز، واعتباره قصور نظر بل سياسة «لا أخلاقية».
وكان دور مصر في تغيير نظرة وسياسة الكتلة الاشتراكية رئيسيا وحاسما، فإن صدق الثورة، وقيادتها أقنع الاشتراكيين أن عدم الانحياز ليس انتهازية وليس مناورة «ركوب سرجين أو اللعب بحبلين»، ولكنه تشبث بالاستقلال، وتمسك بالإرادة، ولكل بلد وشعب طريقه وإبداعه الخاص.
وبعد اعتراف الكتلة الاشتراكية بالحياد وعدم الانحياز أصبح التناقض بينها وبين العالم الثالث ثانويا، واختلافا على التفاصيل والطرق المؤدية إلى نفس الأهداف؛ ولهذا توثقت العلاقة بين المعسكر الاشتراكي وبين هذه الدول، واستطاعت أن تكسر الحصار التكنولوجي والاستراتيجي الذي فرضه الغرب على العالم الثالث حتى لا يتصنع أو يتسلح.
وأقامت مصر وثورتها أوثق علاقة بهذا المعسكر؛ وذلك لشدة وطأة التحديات ولعمق وصدق التحولات والتغيرات التي أرادتها الثورة، واستطاعت مصر بالسند العربي والسند الآسيوي الأفريقي، والسند السوفيتي أن تبني مكانتها الدولية وأن تحقق الأهداف الرئيسية للثورة.
لكن الرجعية نددت ويشتد كل يوم هذا التنديد، بسياسة الثورة الخارجية في تلك الفترة «الناصرية» فهي ترى - كما يرى الدكتور فؤاد زكريا - أنها كانت توسعا ومغامرة تفوق كل طاقات مصر وإمكانياتها.
إن السياسة الخارجية «الناصرية» لم تكن قط مغامرة أو توسعا، ولكن تحقيقا للذاتية والوجود المصري على خريطة العالم بعد غياب طويل، ومصر ليست مجرد حقيقة جغرافية كما كان يقول البريطانيون، ولكنها شعب وحضارة ودولة ذات دور وتاريخ لا مناص أن تقوم به في العصر الحديث، بعد استعادة استقلالها وشخصيتها، تماما كما قامت به في العصر القديم وعلى مدى التاريخ.
صفحة غير معروفة