هذه الحقائق الدامغة والتي تدين اليمين، أو أصحاب المصالح الضيقة القديمة والجديدة تغلب، ويشتد نقيق الضفادع، وترتفع أعلام الحرية المزيفة؛ لتخفي مواقع الفساد الحقيقية ومنبع كل السلبيات.
محكمة الآلهة
ولأن النظم بطبيعة تركيبها وتعدد الطبقات المشاركة فيها حمالة أوجه، تختلط فيها الأمجاد بالدنايا، الفضيلة بالرذيلة، والخير بالشر؛ فإن المرء عندما يتصدى لتقييمها وتحديد موقف منها، بحاجة إلى أن يتسلح بمزيد من الموضوعية والبعد عن المعايير الذاتية.
والذاتية في المنطق والفلسفة، وفي معايير الحكم والتقييم - كما يعرف جيدا أستاذ الفلسفة - لا تعني أبدا مجرد الأغراض الذاتية - وهو بالفعل بريء منها، فلا هو بالإقطاعي ولا أضير من الحكم الناصري حتى يحمل عليه لهدف ذاتي.
ولكن الغضب وهو انفعال مشروع ضد المثالب والعيوب، إذا أخفي عنا العلل والأسباب الموضوعية والقوى الاجتماعية الكامنة وراء هذه المثالب والعيوب، تحول إلى موقف ذاتي ... وقد يقودنا إلى عكس ما نريد تماما.
وقد يستهوينا أيضا هذا الميزان الخادع في الحكم على النظم والسياسات، ميزان الحسنات والسيئات، الإيجابيات والسلبيات. وقد يبدو ميزان عدل وإنصاف، بينما هو في حقيقته معيار أخلاقي فردي وذاتي، قد يصلح للحكم على تصرفات الأفراد، ولكنه لا يجوز على النظم السياسية والاجتماعية، والتي تحكمها قوانين غير قوانين الأفراد. فقد تسقط نظم تحت وطأة أخطائها وسيئاتها كما سقطت نظم نكروما وسوكارنو وسيهانوك وغيرهم، ومع ذلك تظل هذه النظم تحتفظ بوجهها الوطني والتقدمي الأساسي برغم الأخطاء والسلبيات، ويمثل الانقضاض عليها وتقويضها نكسة وردة إلى الوراء.
وما بالنا نتخيل النظم كما لو عبرت بروحها إلى ما وراء الأفق، في الفلك المقدس لتمثل أمام محكمة الآلهة - تضع حسناتها في كفة وسيئاتها في الأخرى لتقرر مصيرها في الأبدية!
هذا الميزان لا يقوم بديلا عن قوانين الاجتماع والعمران وقد بدأنا نضع أيدينا عليها منذ ابن خلدون.
ولا تؤخذ النظم أيضا بمجرد النتائج العملية، ولا تقاس بما حققت أو عجزت عن تحقيقه وهو المعيار البراجماتي العملي الذي يستخدمه د. فؤاد زكريا في إدانته للحكم الناصري. صحيح أن النظام الناصري لم ينجح في محو الأمية أو إزالة الفقر إلى هذه القائمة من أنواع الفشل ... بل إن هزيمة 67 كانت هي بذاتها تجسيدا لكل الفشل والخيبة والثمرة الطبيعية لسلسلة من الحماقات والأخطاء. ومع ذلك فإن الوجه الأساسي للنظام وطبيعته لا تتحدد بمجرد مصادر النجاح أو الفشل ودرس التاريخ أيضا يعلمنا أن هذا المعيار خاطئ، ودون أن ننخرط في مقارنات بين عبد الناصر ونابليون ومحمد علي، فالظروف تختلف تماما. والشخصيات تختلف ومع ذلك فنهاية نابليون في سانت هيلانه لا تمحو البصمات التي تركها على التاريخ الأوربي الحديث وزلزاله الذي أطاح بالنظم الإقطاعية الأوربية. ونهاية محمد علي وسيئاته لا تلغي أنه منشئ مصر الحديثة.
هذه الأساليب في تقييم نظم الحكم والسياسات تفتقد الموضوعية وتسقط في الذاتية ؛ لأنها تقف عند حدود المظاهر والأعراض، أو ما نسميه بالسلبيات ولا تتعمق الجذور الاجتماعية والعلل. ولا تغوص إلى المنابع ومصادر الداء. واليمين الرجعي يحرص كل الحرص على أن يقف بنا عند السطح، وأخوف ما يخافه أن ينكشف الغطاء عن الأسباب الاجتماعية العميقة للسلبيات والأخطاء؛ لأنها تدينه وتفضح دوره في الفساد والإفساد، كما تقطع عليه الطريق وعلى أهدافه المشبوهة.
صفحة غير معروفة