وإذا كانت المخالب الثورية تنتزع بهذه الطريقة ... لماذا إذن يصر اليساريون، كما يقول، على الدفاع عن تقييمهم لثورة 23 يوليو والتجربة الناصرية ما دام عبد الناصر قد مات وضاعت من بين أيديهم هذه المكاسب أو المصالح الخاصة؟
لكن الدكتور فؤاد زكريا على غير طريقة الباحث المدقق، لم يتابع مواقف اليسار من تأييد التجربة الناصرية في حياة عبد الناصر ... لقد كان الموقف الأساسي كما قلنا هو التأييد على أساس الإجراءات العملية والثورية التي قامت بها الثورة، لكن هذا التأييد لم يكن ثابتا وبنفس الدرجة، في كل المراحل ولقد كان اليساريون من خلال وسائل الإعلام، هم الذين انتقدوا محاولات الإبطاء في التنمية وفي التغيير الاجتماعي، ومن أجل ديمقراطية أوسع للجماهير الشعبية ومن أجل ضرب الطبقة الجديدة التي بدأت تطل برأسها من ثنايا التطور الاقتصادي الجديد.
وبعد عام 1967م، ودون تجاهل لظروف المعركة الوطنية لم يكف اليسار عن إثارة كل الأمور الخاصة باقتصاد الحرب والتقشف والتعبئة الشعبية والعسكرية وتصفية الطبقة الجديدة، وكل ما من شأنه سرعة إعداد البلاد للحرب الوطنية الاجتماعية من أجل التحرير والتنمية ... ولعل اليسار هنا لم يقل كل ما كان يجب، وهو ما لا ينكره اليساريون أنفسهم ولكن أحدا لا ينكر أنه بسبب تمسك اليسار بحق النقد، وممارسته له، كان اليساريون ضيوفا دائمين - وعلى دفعات - على المعتقلات والسجون حتى وفاة عبد الناصر، ولست أذكر رقما محددا بدقة، لكن البعض يقدر العدد في ذلك الوقت بأكثر من 120يساريا ونحن نشعر بالأسف إذا كانت هذه الحقائق لا تساعد على إثبات صحة التحليل الذي قدمه الدكتور فؤاد زكريا.
إن مصدر الخلاف الطبيعي بين الدكتور فؤاد زكريا وبين اليسار هو خلاف في التقييم كما ذكرنا، فهو يرى من خلال جزئيات لا تصمد كثيرا أن الرجل البسيط في مصر أضير من الإجراءات الثورية الاقتصادية والاجتماعية ... وهو يناقش التراكمات والمشاكل التي تجمعت في عام 1975م، متجاهلا أن الإجراءات التي اتخذها عبد الناصر رفعت مستوى البسطاء من الناس في الستينيات خاصة، بعد الخطة الخمسية الأولى وقرارات التأميم والإصلاح الزراعي وغيرها ... ومتجاهلا أيضا أن ظروف المعركة والإعداد للحرب والإبطاء في إجراءات التغيير الاجتماعي تبعا لذلك، وإن كان اليسار قد عارض ذلك في حينه في حياة عبد الناصر، قد أدت إلى هذه التراكمات.
إن أحدا لا ينكر كل ما حدث من تجاوزات، ومن تضخم في دور أجهزة القمع، ومن افتقار للتنظيم الديمقراطي لجماهير الشعب، ومن إهمال لدور الشعب في مساندة النظام، ومن الخشية أحيانا من مواجهة تكاليف المعارك بالطريقة المثلى ... لكن هذه كلها لا تغير من وضع عبد الناصر كبطل قومي قاد ثورة قضت على الملكية وقلمت أظافر الرأسمالية والإقطاع، وتحدت أعتى الدول الاستعمارية، وأيقظت الروح القومية على مستوى مصر والوطن العربي كله، وخلقت أمام جماهير شعبنا لأول مرة - وعمليا - أملا محسوسا في العدالة الاجتماعية بعد قرون من الظلم والاستبداد.
ثم إن عبد الناصر نفسه لم يزعم أنه أقام نظاما اشتراكيا لكنه أكد أكثر من مرة أنه يستهدف الوصول إلى الاشتراكية، وأنه يعمل من أجل التحول الاشتراكي أو التطبيق العربي للاشتراكية.
وفي هذه الحدود قاد عبد الناصر تجربة وطنية وثورية واجتماعية تضاف إلى رصيد التقدم المصري والعربي والعالمي بكل إيجابياتها وسلبياتها.
الأبيض والأسود
لقد كان من الممكن دائما أن تكون تجربة عبد الناصر أفضل مما كانت، وكان ذلك دائما هو محور نضال اليسار المساند والناقد للثورة ... ولكن ما حدث كان إنجازا بكل المقاييس. وهذا بالتحديد هو مصدر خلافنا مع الدكتور فؤاد زكريا هو يرى الأسود فقط ونحن نرى الأبيض والأسود معا.
وهو يناقض نفسه بطريقة مثيرة بضرب مثال بقصة «الكتاب الأسود» الذي ألفه مكرم عبيد لكشف بعض حالات استغلال النفوذ أو فضائح الوفد ... فيقول إنه كان يفضل لو أن مكرم عبيد «لم يختم جهاده الطويل بمثل هذا الكتاب» ... الذي لا يرى في حكم الوفد غير الأسود فقط.
صفحة غير معروفة