وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى ضرورة استشهاد اليسار؛ لكي يحتفظ بقواعد الجماهير، بل إنني أقارن فقط بين طريقتين في محاربة اليسار، إحداهما أشد فعالية وأطول أمدا بكثير من الأخرى. وهي في الوقت ذاته أدهى وأذكى فضلا عما تتيحه من قدرة أعظم على المناورة في الساحة الدولية.
والمهم في الأمر أن النتيجة كانت محتومة، وأن امتصاص التجربة الناصرية لليسار، الذي بدأ في ظاهره، ولوقت ما، نصرا عظيما له، كان ينطوي في ذاته على عنصر «النكسة» التي حدثت فيما بعد للقوى اليسارية، ولم يكن تمسك اليسار خلال هذه النكسة بالتجربة الناصرية وإصراره على «يساريتها» سوى معول آخر ... يهدم به اليسار بناءه الذي شيده على مدى كفاحه الطويل.
لقد كان الذكاء والوعي هو الذي يميز اليسار طوال الفترات السابقة على التجربة الناصرية، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة لهذه الفترة أفقد اليسار وضوح الرؤية، وسلبه قدرته السابقة على النظرة الشاملة إلى الأمور والتحليل المتعمق لها.
ذلك لأن التجربة كانت تتبع أسلوبا جديدا كل الجدة في مواجهة اليسار عن طريق الاحتواء، وفي إفراغه من مضمونه الحقيقي وإحلال مضمون فيه قدر كبير من الزيف محله، مع الاحتفاظ بالعدد الأكبر من شعارات اليسار ومن أقطاب اليسار، بعد نقلهم المفاجئ - على طريقة حمام «الساونا» - من حمام البخار الملتهب إلى حوض الماء المثلج.
ومنذ ذلك الحين لم يعرف اليسار إلا الدوار واختلال التوازن، وكان من الطبيعي أن تشوه صورته أمام الجماهير التي كانت تتعلق به في أوقات ثباته وصلابته.
أما الموقف الراهن لليسار، فليس إلا النتيجة الطبيعية للأخطاء السابقة، وكل ما يبدو على السطح من تحول إنما هو في واقع الأمر تطور منطقي لم يكن هناك مفر من حدوثه، ويصل هذا التطور إلى نقطة مؤسفة حين يترك اليسار لليمين شرف المناداة بالحرية وسيادة القانون ومحاسبة المختلسين والقتلة والسفاحين - وقد عرفت مصر منهم الكثيرين بالفعل خلال السنوات الماضية - على حين أنه يقف مستنكرا لأية دعوة إلى محاكمة أخطاء الماضي، وكأنها ردة وجريمة لا تغتفر.
وبذلك يترك الميدان خاليا لليمين لكي يصول ويجول، ويرفع أسهمه من خلال مناداته بشعارات أصبحت تمثل بالنسبة إلى شعبنا أهدافا لا بد من السعي إلى تحقيقها، مع أن اليمين هو أول من كان يدوس هذه الشعارات بقدميه حين كانت مقاليد الأمور في يديه، وهو أول من سينتهكها لو آلت إليه هذه المقاليد مرة أخرى.
ثم تصل المهزلة إلى قمتها حتى يصبح اليمين هو الذي ينادي بالرفض والتغيير والتجديد، ويقف اليسار مطالبا ب «الستر» وبقاء الأمور على ما هي عليه. وبذلك يتبادل الأدوار مع اليمين تبادلا كاملا: فيصبح اليسار - الداعية التقليدية للتغير والتجديد - هو المحافظ والمتمسك بالوضع الراهن، على حين أن اليمين المحافظ بطبيعته تتاح له الفرصة كاملة؛ لكي يتقمص رداء الدعوة إلى التجديد والتغيير الثوري.
وبذلك تسرق من اليسار كل الشعارات التي قضى تاريخه الطويل كله داعيا إليها، وتصبح هذه الشعارات أداة لتجميل الوجه القبيح لليمين وتشويه صورة اليسار. كل ذلك لأنه يصر على إنكار الواقع الموضوعي الذي أحست به الجماهير في حياتها اليومية، ولم تكن محتاجة من أجل هذا الإحساس إلى نظريات أو تحليلات معقدة. وأعني بهذا الواقع أن التجربة السابقة لم تعط الإنسان المصري البسيط ما تعطيه التجربة الاشتراكية الناجحة للشعب الذي يمارسها، وأنها قد ارتكبت أخطاء موجهة ضد إنسانية هذا الإنسان، تتجاوز بكثير نطاق الخطأ غير المقصود الذي يقع فيه نظام الحكم الثوري في سعيه إلى تغيير الأوضاع بصورة مفاجئة.
وبعد، فإن هذه لا تعدو أن تكون محاولة لتحليل الموقف الراهن لليسار إزاء التجربة الناصرية، وردها إلى جذورها العميقة ولتخطي التفسير الساذج لنكسة اليسار من خلال أوضاع اللحظة الحالية وحدها.
صفحة غير معروفة