الدهشة
أما مجيئه في ذلك اليوم فسببه أنه كان رقيبا على ابن الهادي من عند نفسه؛ لعلمه بما يكتمه من الحقد على الرشيد والبرامكة، وبلغه أنه يجالس الأمين ويعاشره فلم يعجبه ذلك منه. وكان إسماعيل وجعفر يقيمان في البصرة مثل أكثر بني هاشم المتقاعدين الذين يعيشون برواتب الخليفة وهباته من الأموال والضياع، فينغمسون في الترف والقصف، ويقضون أيامهم بين مجالس الأنس والغناء، والخلفاء يسهلون لهم هذه الأسباب ليضعفوا عزائمهم عن النهوض لمنازعتهم على الخلافة، ويشغلوهم عن الدسائس السياسية بالجواري والقيان، ومعاطاة الكأس والطاس.
أما إسماعيل بن يحيى فقد كان عفيفا حازما يكره ما يراه من ترف هؤلاء وقصفهم، وعلم أن النصح لا ينفعهم فكف عن نصحهم إلا جعفر بن الهادي؛ فإنه كفله من صغره منذ مات أبوه، فشب جعفر لا يشرب الخمر ولا يميل إلى اللهو، وإنما كان يعاشر الأمين ويغريه على زيادة الترف واللهو لغرض في نفسه لم يكن يخفى على إسماعيل. وكان يخشى بقاءه على عزمه؛ لأنه لا يرى فيه صلاحا للدولة، بل هو يخاف عليها منه. وكثيرا ما نصحه بالرجوع عن ذلك وهو يعده ويخلف. وعلم منذ أيام وهما في البصرة أن جعفرا أتى بغداد، فظنه جاءها لترويح النفس، أو لقضاء بعض المصالح، أو ليقبض عطاءه، فلما أبطأ خشي عاقبة إبطائه فلحق به وهو يظهر أنه آت لغرض له. فلما وصل إلى بغداد واستطلع أخباره علم أنه نازل في قصر الأمين لا يخرج منه، فلم ير بدا من مقابلته هناك، وكانت له سفينة في دجلة إذا جاء بغداد ركب فيها، فاستقلها في ذلك اليوم وقصد قصر الأمين فوجده على تلك الحال.
فلما دخل إسماعيل على مجلس الأمين تهيب كل من كان فيه، حتى الأمين رغم شربه الخمر وتهتكه، فتجلد ووقف لملاقاة ذلك الشيخ الجليل، ولم يكن يحلم أن يراه على هذه الصورة، وأما جعفر فوقف منزويا وقد ارتج عليه. ولم يبق ثابت الجأش متجلدا إلا الفضل بن الربيع؛ لما ذكرناه من طبيعة مزاجه، فضلا عن دهائه، فإنه تقدم إلى إسماعيل، وتبسم له، ورحب به، وأظهر رغبته في تقبيل يده وهو يقول: «مرحبا بمولاي.» وقدم له مقعدا وكان الأمين قد نزل عن سريره ورحب به أيضا.
فنظر الشيخ إلى ما حوله من الجواري والغلمان والعيدان والأباريق والأقداح، وغير ذلك من أسباب الأنس والطرب، فعلم أنه إذا جلس معهم نغص عليهم نهارهم، فتظاهر أنه لم يكن يقصد الزيارة في تلك الساعة، ولكنه توهم أنه سمع صوت جعفر هناك. قال ذلك وهو يتجاهل أنه رآه.
فظهر الوجل على وجه جعفر، وأقبل متأدبا وهو يتجلد، وعلم أن إسماعيل لا يروق له الجلوس هناك فقال: «قد كنت عازما على الخروج من الصباح، فأبقاني ولي العهد في هذا المجلس ليسمعني غناء الجواري البيض، وألبسني ثياب المنادمة، فإذا أحب سيدي أن أنطلق في خدمته فعلت.»
فأظهر إسماعيل أنه مسرور بلقياه وقال: «لا بأس يا ولدي فإني مشتاق إلى رؤيتك، فإذا أردت الانصراف فانزل معي إلى السفينة، ودع القوم في مجلسهم؛ فإن مقامي لا ينفعهم.» قال ذلك وتحول ومشى، فاستأذن جعفر في تبديل ثيابه ثم يلحق به إلى السفينة.
خرج إسماعيل وأهل المجلس سكوت تهيبا، وقد سر الأمين بذهابه. أما جعفر فأسرع إلى غرفته فلبس قلنسوته وسواده ونزل إلى السفينة، فوجد إسماعيل يتمشى على ظهرها وقد أرسل قلنسوته إلى الوراء، وظهر الاهتمام على جبينه وعينيه. فلما أقبل عليه ترامي على يديه ليقبلهما فجذبهما منه وقال: «ما هذا المجلس يا جعفر؟ أمثلك يفعل ذلك؟»
فتراجع وأطرق ولم يجب، وأمر إسماعيل ربان السفينة أن يمضي بهم إلى مرسى بعيد عن القصر، وأمسك جعفر بيده وسار به إلى مقعد في مؤخر السفينة يشرف على الماء، وأجلسه إلى جانبه، ولما جلسا قال إسماعيل: «لم يكن عهدي بك مجالسة هذا الغلام في مثل هذا المجلس، فهل طاب لك اللهو والتهتك؟»
قال: «هل ترى في أثر الشرب؟ إني والله لم أذق الخمر.»
صفحة غير معروفة