لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها
لأبعثها خفا وأترك صاحبي
إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع
رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما
فذاك وإن كان العقاب فعاقب
وهي تشير إلى رغبة صاحب هذا المنزل في السخاء. وكان الأمين كثير السخاء، وكان رئيس الخصيان ماشيا بين أيديهم، فلما أقبلوا على ذلك الباب تقدم ووسع الستارة بيده، فدخل الأمين ورفيقاه إلى قاعة كبيرة أشبه شيء بقاعة الاستقبال، في كل من جانبيها باب يؤدي أحدهما إلى مساكن النساء، والباب الآخر إلى مجالس خاصة هي قاعات، لكل قاعة منها فرش خاص بلون خاص. ولم يكن غرض الأمين الذهاب إليها، وإنما أراد الخروج إلى المصطبة وراء تلك الدار. وكان الفضل وابن الهادي حالما دخلا تلك القاعة سمعا ضرب العيدان على غير نظام؛ إذ كان أصحابها يسوونها وهم وراء الجدران، ولكنهما لبثا ينتظران ما يفعله الأمين. والقاعة المشار إليها مفروشة بالأرمني من الحرير المزركش، وفي جدرانها صور بعض ملوك الفرس والروم على أفراسهم، وبينها صور بعض حيوانات البر والبحر. وقد صنع كثير من هذه الصور ووشي بالذهب أو بالعاج على ألواح من خشب الأبنوس، وعلق بعضها على الجدران بمسامير من الذهب، وعلى أبواب القاعة من الداخل ستائر معلقة بمسامير ضخمة من الفضة، وفي أرضها بساط واحد، ربما بلغت مساحته عشرين ذراعا في عشرين، وحولها مما يلي الجدران وسائد مستديرة من ريش النعام مغشاة بالإبريسم الموشى، وفي زواياها مناور من الفضة توضع فيها الشموع للإضاءة في الليل.
فلما وصل الأمين إلى هذه القاعة، وسمع طنطنة العيدان وراءها، جلس على سرير من الأبنوس مطعم بالعاج كان قائما هناك، وأشار إلى رفيقيه فجلسا، ثم أومأ إلى قيم الخصيان بإشارة فهمها، فأحنى رأسه وخرج، والفضل في قلق ليعلم هل وصلت قرنفلة ورفيقتاها، وابن الهادي ينظر إلى الأمين ويبتسم، وفي نفسه أمور عظام لو أطلقها وخرجت زفيرا لأحرقت تلك القاعة بما فيها، ولكنه كان كاظم الغيظ صبورا، ثم ما لبث أن سمعوا ضرب العيدان ضربا كثيرا على توقيع واحد، ونغم واحد، وإذا بباب من أبواب القاعة قد فتح وخرج سرب من الجواري في أيديهن العيدان، فمررن في القاعة عشرات عشرات يضربن على العيدان ضربا رخيما، ويغنين بصوت واحد، فإذا فرغ العشر انصرفن من الباب الآخر، وجاءت عشر أخر وفي أيديهن عيدان أخر، وهن يغنين غناء آخر على نغم آخر، فلما انصرفن جاء عشر أخر، وهكذا حتى تمت عشرة أفواج. ولم يكن شيء من ذلك ليدهش الفضل ولا جعفرا؛ لأنهما شاهدا مثله في دور البرامكة ودار الرشيد، وإنما أدهشهما ما جاء بعد الجواري من أسراب الغلمان والخصيان وغيرهم، وعليهم الملابس الثمينة الباهرة مما لم يسبقه إلى مثله أحد في الإسلام على هذه الصورة؛ فإنه كان يغالي في اقتناء الخصيان، ويطلبهم من أقاصي البلاد مهما كلفه ذلك من الأموال، وأسرف في ذلك بعد خلافته، فحملهم لخلوته ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وسماهم الجرادية، وفرض لهم فرضا خاصا، واصطنع أجواقا أخر من الغلمان الحبشان سماهم الغرابية، وفرض لهم الأموال. وقد أخذ عليه الناس ذلك، ونظموا فيه الأشعار.
1
صفحة غير معروفة