فقطعت العباسة كلامها وقالت: «وهل أهل القصر يعلمون ذلك أيضا؟»
فخافت عتبة على مولاتها فقالت: «كلا، ولكنني أظن أن زبيدة علمت به لما تعلمينه من تجسسها بوساطة الجواري والأعوان لما يهمها من أمرك، على أن اطلاعها على ذلك لا يقتضي أن تبوح به لزوجها؛ فإن أمير المؤمنين لا يجرؤ أحد أن يذكر له شيئا مثل هذا، إن لم يكن خوفا منه فخوفا من سيدي الوزير، وهو صاحب العقد والحل في الدولة. فمن يجرؤ أن يتعرض لغضبه؟»
وكان الظلام قد تكاثف وهما جالستان في تلك الشرفة في الظلام، وسائر القصر مشعشع بالأنوار والشموع، وأهله لاهون عن حال مولاتهم لا يعلمون بما يكنه ضميرها. ولم يكن أحد ممن في قصرها من الجواري والخصيان وغيرهم يجالسها أو يعلم ما في قلبها إلا عتبة؛ لأنها صحبتها منذ طفولتها وهي في قصر أبيها المهدي، ووثقت بها. وكانت العباسة تتحدث مع عتبة في ذلك المساء وعيناها لا تنتقلان عن الأفق وإن كان مظلما، على أن بصرها كان يتحول رغم إرادتها إلى الأنوار المتألقة في قصر الخلد إلى يمينها، ودار القرار إلى يسارها، وفي كل منهما رقيب تخشاه. فلما استبطأت جعفرا انشغل خاطرها، وتحفزت للنهوض وهي تقول: «هلم بنا إلى الشرفة المطلة على دجلة لعله يجيء من هناك.» وإذا هما بخفق نعال في الدهليز المؤدي إلى ذلك المكان. فلما سمعت العباسة ذلك الصوت خفق قلبها؛ لأنه يشبه وقع خطوات جعفر، فأسرعت وهي تقول: «أظنه جاء!» فمشت عتبة بين يديها وقالت لها: «اذهبي يا مولاتي إلى غرفتك البعيدة حتى آتي به إليك فلا يكون عليكما رقيب، ولا أنا.»
فأطاعتها العباسة وتحولت إلى تلك الغرفة . أما عتبة فأقبلت على الدهليز وفي جدرانه الشموع، فرأت جعفرا داخلا وعليه السواد «الجبة السوداء» والقلنسوة الطويلة، وهما ملابس العباسيين الرسمية، فتقدمت إليه وقبلت يده، فابتدرها قائلا: «أين مولاتك؟»
قالت: «هي في غرفتها تنتظر مجيئك منذ عدة ساعات.»
فمشى وحده، ومشت عتبة في أثره، ريثما يصل إلى باب الغرفة فتساعده على خلع نعاله، ثم تعود إلى مكان بعيد على جاري العادة. وكان جعفر يومئذ في السابعة والثلاثين من عمره، وهو طلق المحيا، ظاهر البشر، جميل الطلعة، ربع القامة، كستنائي الشعر، خفيف اللحية والشارب، لم يخالط شعره الشيب إلا قليلا، وفي عينيه ذكاء. وكان قد أرسل القلنسوة إلى الوراء فبان بياض جبينه، وظهرت على محياه أمارات الاهتمام. ومن كان دقيق الشعور، قوي العاطفة، ظهرت عواطفه في وجهه، فلا يقوى على الكظم، ولا يصبر على الضيم. وهذا الفرق راجع إلى طبيعة الأمزجة. فمن الناس من هو حاد المزاج، سريع الغضب، ومنهم من هو طويل الأناة، واسع الصدر، وما بين ذلك درجات كثيرة. أما جعفر فلم تكن تخفى انفعالاته على المتأمل خلافا للفضل بن الربيع.
الفصل الثامن عشر
المقابلة
وكانت العباسة واقفة في غرفتها وركبتاها ترتعدان من شدة التأثر تتنازعها عوامل الحب والخوف والعتاب والرجاء، وكانت تلك الغرفة على سعتها وبما فيها من وسائل الزينة من المنائر المنصوبة، والصور المعلقة، والطنافس المفروشة؛ أضيق في عينيها من صندوق صغير. ورأت الانتظار تلك اللحظة أطول من انتظارها معظم ذلك النهار، ثم ما لبثت أن سمعت خفق نعاله بالباب، وسمعت حركة خلع النعال. وكانت عتبة تساعده على ذلك، فلما خلعها وضعتها على رف معد لمثلها هناك وعادت.
أما العباسة فتقدمت نحوه وهي في ثوب بسيط تعودت أن تلبسه عند مقابلته، وكان شعرها محلولا وقد ضفرته ضفيرة واحدة جمعتها في أعلى رأسها بدبوس مرصع، والتفت فوق الرداء بمطرف من الحرير مزركش بأشعار طرزت على حواشيه بالقصب. وقد رسم القلق في أسرتها عبوسا زادها هيبة وجمالا. ولم تتمالك عندما وقع نظرها على جعفر عن الابتسام، وقد نسيت ما أعدته من عبارات الشكوى، وذهب من مخيلتها ما تزاحم فيها من أسباب المخاوف، وأحست بارتياح تعودته في ساعة اللقاء، شأن الحب الصادق، فإنه غالب على أسباب الشقاء في كل حال؛ فالمحب مهما انتابه من المشاق أو اعترضه من العقبات إذا رأى حبيبه نسي كل شيء، واشتغل به عن كل شيء. والحب سعادة حقيقية لا يزيدها الشقاء إلا تمكنا؛ كالذهب لا تزيده النار إلا صفاء ورونقا.
صفحة غير معروفة