قالت عتبة: «لك علي ذلك بإذن الله» وهمت بالخروج فنادتها العباسة وقالت: «خذي إليه هذه البطاقة.» وكتبت إليه بطاقة قالت فيها: «أدركني في أول فرصة تتاح لك؛ لإنقاذنا من مخالب الأعداء.» ودفعت البطاقة إليها، فأخفتها بين ثيابها وخرجت للحال إلى غرفتها، وتزيت بزي رسول قادم من خراسان، وتلثمت بلثام السفر، وركبت فرسا وأسرعت نحو الميدان، وكان قصر العباسة على مقربة منه.
فوصلت إلى الميدان وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة، فرأت تلك الساحة غاصة برجال الدولة على خيولهم في ساحة كبيرة قد أحاطوها بسور من حبال مزدوجة منصوبة على أعمدة، وقام الجند حول السور بالأسلحة يمنعون الناس من الدخول، فوقفت بجوادها بحيث تشرف على اللاعبين حتى تتحقق من موقف جعفر، ثم تسعى في الوصول إليه، فرأت في أحد جوانب الساحة فسطاطا كبيرا خرج منه الرشيد على فرسه، وقد اعتم بعمامة خفيفة خاصة باللعب، وبيده صولجان هو عبارة عن عصا طويلة طرفها أعقف، ورجال الدولة على أفراسهم متأهبين للعب، وفي أيديهم الصوالجة وقد اصطفوا صفين: أحدهما مع الرشيد، ورأت الرشيد يجول على فرسه والعصا مشهرة بيده، ثم لقف بها الكرة من على الأرض وأرسلها في الهواء، فتسابق اللاعبون لملاقاتها بصوالجهم.
وأخذوا يستحثون أفراسهم وراءها، وفي جملتهم جعفر الوزير على فرس أدهم، وعليه دراعة تمنطق فوقها بمنطقة عريضة من الخز، وعلى رأسه طاقية فوقها عمامة خفيفة. ولاحظت أنه لم يكن أحد غيره يجرؤ على الدنو من الخليفة. وأما سائر اللاعبين من رجال الدولة فكانوا يجولون في الميدان مسايرة للخليفة، ولا يجرءون على سباقه خشية أن يغلبه أحد منهم - والمجاملة تقضي بأن يكون هو الغالب - إلا جعفر؛ فقد كان يسابق الرشيد في الكرة ويلاعبه بها، والرشيد يجامله، فإذا أخطأ ضحك وصاح بجعفر ومازحه، وجعفر يتعاجز عن غلبته.
وكان صولجان الخليفة من الخيزران المطوق بالذهب، ورأسه من الذهب الخالص، وصولجان جعفر من خيزران بلا تطويق، وكراتهم كتل من مشاقة الحرير معبأة في أكياس من الحرير المتين، وقد شدت بأطواق من الأوتار المرنة، فلا يلبث الفارس أن يلقف الكرة من على الأرض بطرف صولجانه الأعقف حتى تطير في الهواء، فيستحث الآخرون أفراسهم في أثرها، وعيونهم شائعة نحوها، وصوالجتهم مشرعة في أيديهم، فيبتغون ملاقاتها، وأفراسهم قد هاجها الجهد حتى تصبب العرق منها، واختلط الزبد المتحلب من أفواهها بما أزبد من العرق المتقطر من أعناقها وصدورها، وهي لا تشكو تعبا؛ لأنهم أعدوها لمثل ذلك اليوم. وكان الرشيد شديد الولع بهذه اللعبة،
1
ورجال الدولة يتقربون إليه بإتقانها واللعب بين يديه بها.
وكان جعفر قد قضى ليلته الماضية في قلق على أثر مشاهدته ولديه؛ إذ جاء بهما إليه رياش قبل ذهابه إلى دار فنحاس، فقبلهما جعفر واستنشق ريحهما ولاعبهما مدة، فثارت عواطفه وأصابه ما أصاب أمهما تلك الليلة من يقظة الحنان الأبوي على ولدين كأنهما الفرقدان، مع ما ذكرناه من جمالهما ولطفهما. وقد قضت إرادة الخليفة بإبعادهما عن حجر والديهما؛ خوفا من الموت، فبات جعفر تلك الليلة وهو يتصور العباسة معانقة ولديها، مع ما قد يجيش بين جنبيها من عوامل الحنان يخالطها خوف الفراق، ناهيك بما يعترض ذلك من الهواجس والمخاوف، فعظم عليه الأمر وهجره النوم. وقد كان على موعد للذهاب إلى الميدان لملاعبة الرشيد بالكرة والصولجان في صباح الغد، فجاء بموكبه وحاشيته وهو يظهر الارتياح؛ لعلمه بما يحدق به من الحساد والوشاة، على أنه كان مطمئن الخاطر من ناحية الرشيد، واثقا بحسن ظنه به، لا يخاف حسد الحاسدين، ولا وشاية الواشين.
وقد فاته ما يجول في خاطر الرشيد من أمره وما يدسه الوشاة إليه؛ يثيرون نقمته عليه بما يحدثونه به من اتساع سلطان البرامكة، واقتنائهم الضياع والقصور، واختزانهم الأموال مما لم يكن عند الرشيد مثله، فضلا عن استبداد جعفر بشئون الدولة، على أنهم لم يكونوا يجدون من الرشيد إصغاء، ولم يسمعوا منه غير إطرائه والثناء عليه، وقد أطلق يده في أموره العامة والخاصة، حتى أباح له الدخول على دوره بلا استئذان، وسلم إليه خزائن بيت المال، وأطلق يد أبيه يحيى في دوره وقصوره، وجعل النظر فيها وفي حريمه إليه، حتى إنه كان يغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح.
2
ولم يكن الرشيد يصبر على فراق جعفر حتى آل ذلك إلى ما تقدم من عقده له على أخته العباسة؛ بحيث يحل له النظر إليها فلا يخلو مجلسه منهما، فأفضى ذلك إلى ما علمته من زواجهما سرا.
صفحة غير معروفة