فأجابه على الفور ويده على لحيته: «وأين قضيت هذه الشيبة يا مولاي؟»
فقال الفضل: «اذهب بنا إلى الجواري المولدات.»
فأشار إشارة الطاعة وتحول إلى الجانب الآخر من الفناء، فتبعه الفضل ورجاله وفنحاس يقول: «يظهر أنكم تعبتم من الوقوف، فها أنا ذا ذاهب بكم إلى الجواري المغنيات اللواتي حفظن الأشعار، وأتقن الضرب على العود وغيره من آلات الطرب.» حتى وصل بهم إلى غرفة فتح بابها ووسع للفضل مدخلها، فنظر الفضل فرأى الغرفة مفروشة بالبسط، وفيها الوسائد ، وفي بعض جوانبها ثلاث من الجواري البيض جالسات وقد فاحت رائحة المسك منهن؛ على إحداهن ملحفة معصفرة فوق غلالة حمراء، وعلى رأسها عصابة مزركشة. وقد أرخت تحت العصابة سالفتين علقت في طرف كل سالفة ياقوتة حمراء، وأرخت شعرها كأنه الليل، وتبخرت بالعود، وتعطرت بالمسك. وكانت مقدمة على صاحبتيها لأنها أجملهن خلقة، على أن صاحبتيها كانتا في مثل مظهرها من حيث الملبس، ولكنها تفضلهما بجمالها ورشاقة قدها، وكانت عيناها سوداوين كأنهما مكحولتان، ولونها أبيض في صفاء البلور، وفي عنقها عقد من العقيق. وكانت جالسة بين رفيقتيها على وسادة، فلما فتح الباب ابتدرها فنحاس قائلا: «قومي يا قرنفلة وقبلي يد مولانا الفضل بن الربيع.» وكانت تعرف هذا الاسم وعلاقته ببلاط الخليفة، فتحفزت للوقوف، وطال تحفزها لثقل فخذيها على حد قول الشاعر: «فوقع نظر الفضل على واحدة منهن، رأى في عينيها سحرا وفي قامتها رشاقة، وقد زادتها السذاجة جمالا وهيبة، فوقعت من نفسه موقعا حسنا ...»
فقيامها مثنى إذا نهضت
من ثقله وقعودها فرد
ثم نهضت ومشت وهي تتمايل وسراويلها تتثنى فوق قدميها، حتى إذا دنت من الفضل بن الربيع هشت له وابتسمت ابتسام التحية بلطف ورقة، وانحنت لتقبيل يده فمنعها والتفت إلى فنحاس لفتة الاستحسان، فقال فنحاس: «خاطبها يا مولاي؛ فإنها فصيحة اللسان.»
فحياها الفضل فأجابت بأفصح عبارة، فأدرك من لهجتها أنها بصرية، ولكنها تختلف عن أهل البصرة في لون الوجه وسائر الملامح، فنظر إلى فنحاس وقال له: «لعل هذه الجارية من أهل البصرة؟»
قال: «كلا، ولكنها ربيت في البصرة منذ طفولتها، وأصلها من بلاد الكرج، وقد ابتعتها صغيرة مثل الفتيات اللواتي شاهدتهن في الحجرة الأولى، فآنست فيها ذكاء وجمالا فأرسلتها إلى عميل لي في البصرة علمها اللغة العربية والقرآن، وحفظها الأشعار، ولما عادت إلي أعجبني منطقها ورخامة صوتها، ورأيت ما علمته من رغبة رجال الدولة في الاقتداء بأمير المؤمنين بتعليم الجواري البيض الغناء، فرغبت إلى الموصلي؛ مغني الخليفة، في تعليمها، فلم يقبل إلا بعد أن بذلت له المال الكثير، وصرت أبعثها إليه كل صباح تأخذ عنه لحنا بعد آخر حتى أتقنت هذه الصناعة، وأصبحت نادرة بين جواري بغداد؛ لا يوجد نظيرها ولا في بلاط الخليفة.»
وكان فنحاس يتكلم والفضل يتأمل جمال تلك الجارية، وكانت قد تشاغلت عن سماع إطناب فنحاس بإنزال عود كان معلقا على الحائط، فانحسر كمها عن يدها، فبانت غضاضة زندها وعليه الأساور والدمالج، وبان الخضاب في كفها. ورأى قرطيها يلمعان في أذنيها. فلما فرغ فنحاس من إطنابه قال له الفضل: «قلت إنها تحفظ الشعر وتجيد اللغة العربية.»
قال: «اسألها ما شئت واسمع حديثها، أو انظر إلى عصابتها واقرأ ما زركشته عليها.»
صفحة غير معروفة