فاستغرب الفضل مما سمعه، وأظهر الاكتفاء من رؤية تلك الحجرة وحول وجهه، فسبقه فنحاس إلى الغرفة التالية وفتحها، فرأى فيها فتيات سود البشرة، جعد الشعور، فطس الأنوف، فعرف الفضل أنهن من بنات الزنوج؛ وهن أقرب إلى القذارة والوحشية من أهل الحجرة الأولى، والسواد أقبح الألوان؛ يندر اجتماعه مع الجمال. ولاحظ فنحاس أن الفضل ميال إلى سرعة الانتقال من هناك، فمشى أمامه وهو يقول: «هؤلاء صغار الزنوج يحملهن إلينا النخاسون من أقاصي السودان. والغالب في أخذهن على سبيل السبي بلا ثمن، ونحن نبتاعهن بثمن بخس، وأكثرهن يتعلمن الخدمة الشاقة، ويغلب أن نجعلهن في خدمة الجواري البيض.»
وقبل أن يصلوا إلى الحجرة الثالثة قال فنحاس: «وفي هذه الحجرة بنات من البربر يحملهن النخاسون من بادية أفريقيا. وأكثر هذا الصنف من الجواري ينقلن إلى بغداد بدلا من الجزية كما لا يخفى على مولاي. وفي الغرفة التي تليها جوار صفر من بلاد السند، وفي الغرفة التي بعدها جوار حمر من بلاد الروم، وفي الغرف الأخرى طبقات من أولئك الجواري بين سراري ومواشط وحواضن وطباخات وخبازات ونحو ذلك من ضروب الخدمة. وفي بعض هذه الغرف طبقات من أصناف المماليك البيض والسود، وقد تدربوا على الصناعات المنزلية بين طاه وخباز وفراش وسائس. وفيهم من أتقن الأدب وحفظ الشعر والعربية، ومنهم المغنون والندماء والمضحكون وغيرهم بين بيض وسود على اختلاف الأعمار.»
الفصل الثالث عشر
الجواري المولدات
فرأى الفضل أن التنقل بين جميع هذه الغرف يطول أمره، فقال: «أرنا أمثلة من أغرب ما عندك ودعنا من هذا التفصيل؛ فإن الوقت لا يساعدنا على رؤية كل من في هذه الغرف.»
فقال: «هل تريد أن أريك الغلمان الصغار من البيض والسود؛ فإنهم في مثل ما رأيته؟»
قال: «أجل. أرنا الجواري الصبيات.»
فتجاوز فنحاس عدة غرف حتى وصل إلى حجرة فتح بابها، فإذا فيها فتيات بيض بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر ، وهن مع ذلك في حال السذاجة، عليهن أكسية من الأثواب البسيطة، وشعورهن مرسلة أو مجدولة، وفي آذانهن الأقراط، وفي أعناقهن عقود من الخرز الملون، وفيهن جمال النساء وحياؤهن. ولما رأين الفضل ورجاله غلب عليهن الحياء وتولاهن الخوف، فوقع نظر الفضل على واحدة منهن، رأى في عينيها سحرا وفي قامتها رشاقة، وقد زادتها السذاجة جمالا وهيبة، فوقعت من نفسه موقعا حسنا، فناداها بالعربية فلم تفهم مراده، ولكنها أدركت أنه يناديها فنفرت واختبأت وراء جارتها، وحولت وجهها وغطته بذراعها، فأعجبه ذلك النفور فقال: «أين أبو العتاهية أو أبو نواس يصف لنا هذا المنظر ببيت من الشعر؟!»
فتذكر فنحاس أبو العتاهية والتفت وهو يتوقع أن يراه إلى جانبه فلم يجده، وأوشك أن ينطق باسمه لو لم يتذكر نصيحته بتكتم أمره، فقال: «صدق مولاي بإعجابه، فإن هذه الجارية من طبرستان، اشتريتها في جملة جوار من نوعها. وليس فيهن أجمل منها، ولكنك سترى ما هو أعجب من ذلك! فكيف لو رأيت الجواري المولدات من البصريات والكوفيات ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المزرفنة، والعيون المكحلة، وحسن زيهن وزينتهن، وفيهن الطويلة البيضاء، والسمراء اللعساء، والصفراء العجزاء، وبينهن من إذا صببت عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها شيء لعظم عجيزتها، مثلما يتحدثون عن عائشة بنت طلحة، التي كانت إذا همت بالنهوض يساعدها عليه اثنان.»
فضحك الفضل لمهارة فنحاس في وصف جمال النساء مع ما يظهر من شيخوخته وقال له: «أراك ماهرا في وصف الحسان يا معلم فنحاس.»
صفحة غير معروفة