الدعوة
أما جعفر فتركناه في قصره وقد خلع ثيابه للراحة، ثم خطر له أن يجلس للصبوح؛ وهو مجلس كانوا يعقدونه للشراب صباحا، فأراد أني يودع بغداد به، فأمر بإعداد المائدة، وجاءوه بالشراب، وسأل عمن في داره من المغنين، فقالوا له: «إن أبا زكار الأعمى هنا.» فقال: «إلي به.» فدخل ونصبت الستارة واستدعى جواريه ليغنينه فيتودع من مجالستهن في دار السلام؛ لاعتقاده أنه مسافر في صباح الغد، فأخذ أبو زكار يغني والجواري يضربن على العيدان، وجعفر يشرب ويطرب، ويظن أن الناس غافلون عما بينه وبين الرشيد. وربما علموا من ذلك أكثر مما يعلمه هو، ولا سيما المغنين؛ فقد كانوا يطلعون على أسرار الناس بما يتاح لهم من حضور مجالس الأنس التي يدور فيها الشراب، فإذا طرب الجلساء بدرت منهم بوادر تشف عن سرائرهم، والمغنون يتجاهلون ذلك ويكتمونه خوفا على حياتهم؛ فالرشيد مع تكتمه في أمر جعفر لم يكن ليخفى سره على مغنيه الموصلي، حتى قيل إنه سأله ذات مرة وهو في أحد مجالسه: «بماذا يتحدث الناس؟» فأجابه الموصلي: «يتحدثون بأنك ستقبض على البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة.»
1
فانتهره الرشيد وصاح فيه قائلا: «ما أنت وذاك؟ ويلك!»
وكذلك أبو زكار الأعمى، فإن عماه كان يحفز جلساءه على التصريح بأكثر مما يصرحون به أمام سواه، فكان على بينة بما يحيط بجعفر من الخطر، وربما ألمع إلى ذلك في بعض غنائه فلا يلاحظه غير العارفين. فلما دعاه إلى الغناء في ذلك اليوم غناه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما
وإن بقيت تصير إلى نفاد
ولو فوديت من حدث الليالي
صفحة غير معروفة