فسأل الملك: ولكن كيف حدث هذا؟ ... يبدو لي أن ما وقع لم يكن حادثا تافها وليد المصادفات، وأكاد ألمح في الظلام خيانة أحبطت بإخلاصكم وشجاعتكم ... ولكن دعونا نرى وجوه القتلى أولا. ولنبدأ بهذا الذي سدد إلينا سهما طائشا.
وسار في اتجاه العربة وددف وسنفر ورئيس الفرسان يسيرون بين يديه بالمشاعل وخوميني يتبعه في خطوات بطيئة، فعثروا بالجثة على بعد قريب، وكان صاحبها منبطحا على وجهه والسهم القاتل نافذ في جنبه الأيسر، ويئن أنينا أليما، فاضطرب الملك لسماع أنينه، وسارع إليه، وأماله على ظهره، وألقى نظرة قلقة، ولما تبين وجهه صرخ بقوة: رعخعوف ... ابني ...!
ونسي فرعون جلاله ونظر فيمن حوله كأنه يستغيث بهم على دفع بلاء لا مرد له، وأمعن النظر ثانية في وجهه الملقى تحت قدميه، وقال بحزن وفزع: أأنت الذي حاولت الفتك بي؟
ولكن الأمير كان يعاني ألم النزع الأخير، ويتيه في غيبوبة الاحتضار، فلم ينتبه إلى العيون المرتاعة المحدقة به، وجعل يئن أنينا موجعا، وصدره يعلو وينخفض بشدة، فتملك ددف الرعب والألم، وكأن تلك الفاجعة تبغته بغير نذير، وساد الجميع وجوم ثقيل نسي فيه خوميني آلام ذراعه، وجعل يختلس نظرات الإشفاق من وجه الملك، وهو يدعو الرب أن يكفيه شر تلك الساعة، وكان فرعون ينحني على ابنه المحتضر، وينظر إليه بعينين جامدتين جعلهما الحزن كبحيرتين راكدتين ... وكانت نفسه جياشة مضطربة، تعترك فيها العواطف المتناقضة والأفكار المتنافرة، وهو بين هذه وتلك مستسلم للجمود، ولبث يديم النظر إلى وجه ابنه المعذب الذي ذهب عنه الجلال والقسوة، ولبس لباس الذل والهوان، حتى فاضت روحه وسكنت حركة جسمه إلى الأبد.
وظل الملك ملازما لجموده الغريب زمنا ليس بالقصير، ثم استعاد جلاله وثباته، فاعتدلت قامته، والتفت إلى ددف وسأله بصوت غريب: أخبرني أيها القائد بما تعلم من تفاصيل هذه المأساة.
وأخبر ددف مولاه بصوت حزين متهدج بما قصه عليه الضابط سنفر، وصارحه بالشكوك التي وسوست في صدريهما، وما دبرا من حيلة لإنقاذ حياة مولاهما ...
يا للآلهة!
كان يروح ويجيء مطمئنا، ففاجأه الغدر من حيث لم يحتسب، من ولده الأعز وولي عهده، وأنقذته الآلهة من الشر العظيم، ولكن اقتضت مشيئتها لذلك ثمنا غاليا هو الروح التي صعدت الآن ملوثة بأشنع إثم حمل وزره إنسان ... فنجا من الهلاك ولكنه لم يهنأ بالفرح، وقتل ولي عهده ولم يدر كيف يحزن ... وطالعته الدنيا بأنكد وجوهها وهو في نهاية الطريق ...!
35
وعاد الملك وصحبه إلى القصر الفرعوني، وكان الصباح قد زان الكون بشمس مشرقة، وأحس العاهل الكبير بتعب وخور فآوى إلى مخدعه سريعا واستلقى على فراشه، وانتشر الخبر الأسيف في رحاب القصر؛ فخفقت له القلوب خفقان الأسى والحزن والهلع، وزلزل له فؤاد الملكة ميرتيتفس واضطرمت فيه نار موقدة لا تقوى مياه النيل بأسرها على إطفاء جذوة منها. ولحقت المرأة بزوجها العظيم تستغيث بقربه من ويل هذا الشر، وتطلب في محضره العزاء والطمأنينة، فوجدته نائما أو كالنائم، فلمست بأناملها الباردة جبينه، ووجدته ساخنا كأنه كتلة من النار يتصاعد منها حمم، فهمست بصوت خافت: مولاي!
صفحة غير معروفة