وعندما أتى مساء ذلك اليوم كان الجيش قد انتهى من دفن قتلاه، وتضميد جراح جرحاه، وآوت الجند إلى الخيام تأخذ قسطها من الراحة بعد نصب اليوم المرهق، وجلس ددف أمام مدخل خيمته يصطلي نارا ويتأمل ما حوله بعينين حالمتين، وكان أعظم ما يستولي على مشاعره على الأرض تلك الأعلام المصرية الخفاقة المنشورة على السور الحصين، وفي السماء هاتيك النجوم التي كأنها عيون تتألق أبدا إعجابا بقدرة الخالق وجمال المخلوق ... وكانت تحلق بسماء خياله أطياف جميلة - مثل النجوم - تمثل لقلبه ذكريات منف السعيدة وأحلامها وآمالها، ولم ينس في أحلامه تلك الساعة الرهيبة المقبل عليها حين يقف بين يدي فرعون، ويطلب إليه قلب أعز مخلوق إلى نفسه في مصر. يا لها من ساعة رهيبة! ولكن ما أجمل الحياة إذا اطردت من نصر إلى نصر، وتنقلت من سعادة إلى سعادة! ليتها تسير كذلك أبدا، وليت الأقدار ترحم الإنسان! ولكن الظاهر أن السعادة نادرة الوجود في هذه الدنيا، وهل يستطيع أن ينسى صورة تلك المرأة البائسة التي اختطفها البدو من بين يدي سعادتها، واهتصروا شبابها، وساموها الذل عشرين عاما! يا للمسكينة!
نعم لم يستطع ددف أن ينسى في سعادته وفوزه بؤس تلك المرأة ...
30
وأشرقت الشمس على منف ذات الأسوار البيضاء، وكأنها تستقبل عيدا من أعياد الرب بتاح؛ فالأعلام ترفرف على أسطح البيوت والقصور، والطرق والميادين تموج بجموع الشعب كأنها عباب النيل إبان الفيضان، والجو يضج بالأناشيد الوطنية تحية لفرعون والجيش الظافر والجنود البواسل.
وسعف النخل وأغصان الزيتون تلوح في الفضاء كأنها أجنحة طير أليف تداعب هامات كللها الظفر وأطربها الفرح، وبين تلك النفوس السعيدة المغتبطة شقت مواكب الأمراء والوزراء والكهنة طريقها إلى باب المدينة الشمالي، لاستقبال الجيش المظفر وقائده الباسل.
وفي الموعد الموعود حمل النسيم أنغام موسيقى الجيش الظافر، وبدت طلائعه في الأفق ترفرف عليها الأعلام، فتعالى الهتاف ودوى التصفيق ولوحت الأيدي بالأغصان، وغمر القوم موجة من الحماس الدافق جعلتها كالبحر الخضم المتعارك الأمواج.
وتقدم الجيش بنظامه المعهود تتقدمه جموع الأسرى مكتوفة الأذرع منكسة الذقون، تتبعها عربات كبيرة تحمل السبي من النساء والأطفال والمغانم، ثم بدت فرقة العربات يتقدمها القائد الشاب يحيط به السادة المستقبلون من كبار رجال المملكة، وتتبعه صفوف العربات الحربية المهيبة يشملها نظام دقيق رائع، وتأتي على الأثر فرق الجيش من الرماة وحاملي الرماح إلى حاملي الأسلحة الخفيفة، تتقدم صفوفا تسير كل على أنغام موسيقاها، وقد تركت أماكن من سقطوا في المعركة الظافرة شاغرة تحية لذكراهم وذكرى لاستشهادهم النبيل في سبيل الوطن وفرعون.
وكان ددف سعيدا فخورا ينظر إلى جموع الشعب المتحمس بعينين لامعتين، ويرد التحيات الحارة بالتلويح بسيفه العظيم، وقد فتشت عيناه في الجموع عن الوجوه الحبيبة التي لم يداخله ارتياب في أنها تراه وتهتف باسمه، حتى خال هنيهة أنه يسمع صوت أمه زايا وخوار والده بشارو المختال الفخور، ثم خفق قلبه خفقة شديدة اهتزت لها حناياه، وتساءل ترى هل تشاهده الآن هاتان العينان السوداوان اللتان ألهمتاه الحب كما ألهمت الشمس البازغة قلوب المصريين عبادة الله؟ هل تراه في مجده؟ وتسمع اسمه تهتف به الألوف المحتشدة؟ هل ترى وجهه الذي أضناه الشوق والبعاد؟
وتقدم الجيش في مسيره إلى القصر الفرعوني، وبرز الملك والملكة إلى الشرفة المطلة على الفناء الواسع المعروف بساحة الشعب، ومرت أمامهما جموع الأسرى وأثقال المغانم والسبايا وفصائل الجيش، ولدى اقتراب ددف من الشرفة الملكية جرد سيفه ومد يده تحية، ولفت وجهه إلى الملكين، وكانت الأميرات حنوتس ونفر حتيس وحتب حرس ومري سي عنخ واقفات خلف الملك والملكة، فانجذبت عيناه إلى عينين فاتنتين لهما عليه سلطان ليس لشيء في الوجود، وتبادلت الأعين رسالة نارية خفق لها القلبان، حملت شوقا مضنى وجوى، فلو أنها مست في سبيلها حاشية علم من الأعلام لأشعلت نارا موقدة. •••
ودعي القائد ددف للمثول بين يدي فرعون، فذهب بقلب ثابت ونفس مطمئنة، ومثل في الحضرة الجليلة مرة أخرى، وقد تعطف الملك وقدم له الصولجان، فلثمه ساجدا، ثم وضع على أعتاب العرش مزلاج باب السور الحصين الذي اقتحمه جيشه ظافرا، ثم قال: مولاي صاحب الجلالة فرعون مصر العليا والسفلى، سيد الصحراء الشرقية والصحراء الغربية، وصاحب بلاد النوبة، مولاي! لقد أيدتنا الآلهة على عمل عظيم وفتح مبين، فضمت إلى ملككم السعيد ملكا جديدا، وأدخلت في طاعتكم أفواجا كانوا إلى أمس عصاة طاغين، وطوت تحت جناحي ربوبيتكم قلوبا خاشعة أقسمت في ذل الأسر يمين الإخلاص لعرشكم العتيد.
صفحة غير معروفة