وتقدمت القافلة في طريقها تتبع المرشدين ...
وكان ددف إذا أرسل الطرف يرى عن بعد الأميرة الصغيرة، التي استبدت بقلبه وأصلته جوى أليما، تمتطي صهوة جوادها المطهم وتتمايل على متنه كالغصن الرطيب، وكان يبدو على سيماها الجلال والكبرياء، إلا أنها كانت تنظر إلى شقيقها أحيانا تحادثه أو تستمع إليه، فيلوح نصف رأسها الأيسر كصورة الأم إيزيس على جدران المعابد، وشاهد الشاب الأمير أبوور يميل بقامته المتينة البنيان، ويحادثها ويبتسم، وشاهدها تحادثه وتبتسم، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها ذاك الكبرياء والبهاء يجود بابتسامة كأنها سماء مصر صفاء وحسنا وجمالا وندرة غيث.
ودبت الغيرة السامة في قلبه الطاهر النبيل، وأرسل إلى الأمير السعيد نظرة ملتهبة، ذلك الأمير المجدود الذي جاء رسولا للحرب فالتقى في طريقه برسول السلام والحب ... وعانى قلبه انفعالات مريرة لم تعهدها نفسه الصافية من قبل، ومضى يحادث نفسه حديثا ثائرا غاضبا ...
أيجوز أن يهوى قلبه ويذوب بهواه في برودة القنوط ويخسر الدنيا جميعا؟ ... أيعقل أن يصلى نار الحب وعذابه، ومن يهوى يسير على بعد قفزة جواد منه؟ فما قيمة الحياة؟ وما قيمة الآمال التي تمد نفسه بالقوة والجلاد؟ بل ما أشبه حياته بحياة وردة غضة لم تنشق عنها أكمامها، عاجلتها ريح صيف عاصفة فاقتلعتها من غصنها الحنون، ودفنتها في رمال الصحراء الملتهبة ...
من ذاك العبد الذي يسمونه بالطاعة؟ ومن ذلك الظالم العاتي الذي يدعونه بالواجب؟ ما الإمارة وما العبودية: كيف تهصر هذه الأسماء قلبه، وترمي به في هوة اليأس الأليم؟ لماذا لا يسل حسامه ويهجم بجواده البرق على تلك المتعالية القاسية، ويحملها قوة واقتدارا، ويغيب بها في بطن الصحراء، ويقول لها بصوت جهير: انظري إلي، ها أنا رجل جبار وأنت امرأة ضعيفة، ابسطي هذه التقطيبة التي رسمتها على جبينك تقاليد القصر الفرعوني، ونكسي هذا الذقن الذي رفعته عادات الإمارة والسيادة، وتطهري من هذه النظرة العالية التي تعودت أن تلقيها من عل على الركع السجود، وتعالي جاثية بين يدي، فإن شئت حبا رويتك بالحب، وإن أبيت إلا استكبارا ...
يا له من هذيان كغليان المرجل المكتوم! ويا لها من غضبة مختنقة عديمة الأثر! وها هي القافلة تسير، وها هو الهوى يلعب بالقلوب فتتمايل لسحره القدود وتفتر الشفاه، وها هي الصحراء الواسعة تشهد في صمتها الأبدي ... يا لها من صحراء! وقد تأمل الخلاء مليا فانتشلته الرهبة من لجة أحلامه وآلامه، وأفرغت في قلبه الإعجاب والإجلال ، وكأن القافلة في ذلك المحيط الجليل قبضة من مياه في بحر خضم لا ترى له شطآن، وما أحرى الحدأة المحلقة أن تراها كتلة من الكتاكيت ... واها ما حبه؟ ما آلامه! من يحس بها في ذلك الفضاء الفسيح؟ كم شهد من محبين وغير محبين منذ عهد مينا؟ وقد ضاعت ذكراهم كما يضيع النداء في ذلك الكون اللانهائي ... فما ددف وما حبه؟!
وانتبه بغتة على صهيل جواده إلى ما حوله، وكانت القافلة تتقدم تقدما مطردا، حتى بلغت مقدمتها بقعة الريان، وأناخت عندها، وكانت بقعة الريان من أصلح نواحي الصحراء للصيد، وكان يمتد بها جبل ست من الشمال إلى الجنوب، وهي مأوى للحيوانات المختلفة التي يغرم الهاوون بصيدها، ويمتد من سفح جبلها إلى ما يليه شرقا تلان عظيمان يحصران بينهما رقعة واسعة من الصحراء، ثم يضيقان كلما امتدا شرقا حتى لا يفصل بينهما إلا عشرون ذراعا في مكان نادر المثال، أعدته الطبيعة للصيد والقنص والطرد.
وكان السادة يحسون ببعض التعب، فسارع الخدم والجنود إلى نصب الخيام، وعني آخرون بتهيئة أدوات الطهي وأوقدوا النيران، وكان العمل يسير بهمة ونشاط، فما هي إلا دقائق حتى تهيأ معسكر كامل من خيام ومرابط للخيل ومطبخ ميدان، وأخذ الحرس أماكنهم، وآوى الأمراء إلى الخيمة الكبرى المرفوعة على عمد من الخشب المكفت بالذهب الخالص ... واستراح الأمراء ساعة فاستعادوا نشاطهم وقوتهم، ثم قاموا للصيد.
ونصب الخدم شبكة صيد عظيمة عند مقترب التلين، وتفرق الجند على أضلاع المثلث الذي يرسمه جبل ست والتلان الملتقيان بالشبكة العظيمة، وعدا آخرون إلى سفح الجبل ليثيروا الحيوانات المطمئنة، في حين امتطى الأمراء جيادهم، وتفقدوا أسلحتهم، وتوزعوا في الميدان الفسيح، وكل على أهبة الاستعداد.
وامتطت الأميرة مري سي عنخ جوادها الكريم، ووقفت به أمام الخيمة الكبرى تشاهد الصراع المرتقب حينا بعد حين بين الإنسان والحيوان ... وكانت ترقب حركات الأمراء بعينين عظيمتي الاهتمام، والظاهر أنها استبطأت الصيد والطرد، فسألت بصوت مسموع الضباط الذين يقفون وراءها دون أن تلتفت إليهم: ما لي لا أرى صيدا؟
صفحة غير معروفة