وكان فرعون يحب تلك الجلسات العائلية التي تعفيه من أثقال الرسميات، وترفع عن كاهله أعباء التقاليد، فيغدو فيها أبا رفيقا وصديقا ودودا، ويخلص وصحبه إلى النجوى والحديث، ويطرقون تافه المواضيع وهامها، فتلوك ألسنتهم الفكاهات، وتبرم الأمور وتقرر المصائر ... وفي ذلك اليوم المدرج في طوايا الزمان - الذي أرادت الآلهة أن تجعله مبدأ لقصتنا - بدأ الحديث بالهرم الذي شاء خوفو أن يقيمه مثوى لخلده ومستقرا لجثمانه، وكان ميرابو، المعمار النابغة الذي تسنمت به مصر ذروة المجد الفني، يتولى شرح عمله المجيد لمولاه الملك، فأسهب في تبيان دلائل العظمة المرجوة لذياك العمل الخالد الذي يشرف على بنائه وابتكار خططه. ومضى الملك يستمع إلى صديقه الفنان، ثم ذكر السنوات العشر التي تقضت على البدء في العمل فلم يخف تململه، وقال للفنان: أي ميرابو العزيز، إني أومن بنبوغك ، ولكن حتام تستنظرني؟ إنك لا تفتأ تحدثني عن عظمة الهرم الذي لم أر من بنيانه مدرجا واحدا، وقد مضت على بدء العمل عشرة أعوام طوال، حشدت لك فيها الملايين من الرجال الأشداء، وعبأت لك خير الكفايات الفنية من شعبي العظيم، ومع ذلك فلا أرى لذاك الهرم الموعود أثرا على ظهر الأرض، وكأني بهاتيك المصاطب التي تحفظ أجساد أصحابها، ولم تكلفهم عشر معشار ما نكلف أنفسنا، تسخر من جهدنا الضائع وعملنا العابث.
فبدا الجزع على وجه ميرابو الأسمر الأقتم، وارتسمت تجاعيد الارتباك على جبهته العريضة، وقال بصوته الرفيع الناعم: مولاي! حاش أن أصرف الوقت عبثا أو أضيع الجهد لعبا، فإني لمقدر التبعة التي تحملتها حين أخذت على نفسي موثقا أن أشيد لفرعون مثوى خلده، وأن أجعله آية للناس تنسيهم ما تقدم من آيات مصر وعجائبها. ونحن لم نضع الأعوام العشرة عبثا، بل صنعنا فيها ما تعجز عن صنعه الجبابرة والشياطين، فشققنا في الصخر الجلمود مجرى ماء يصل ما بين النيل وهضبة الهرم، وقطعنا من الجبل صخورا شاهقة كالتلال، وسويناها فكانت في أيدينا أطوع من العجين ... ونقلناها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فانظر يا مولاي إلى السفن كيف تمخر النهر حاملة أكوام الصخور كأنها جبال عالية تسيرها تعاويذ ساحر جبار ... وانظر إلى العمال المنهمكين كيف يكبون على أرض الهضبة كأن ظاهرها انشق عمن يحتويهم منذ آلاف السنين!
فابتسم الملك وقال متهكما: يا عجبا ... أمرناك أن تشيد لنا هرما فشققت نهرا! فهل تظن مولاك ملكا على الأسماك؟
وضحك الملك وابتسم الصحابة، إلا الأمير رعخعوف ولي العهد، فقد جد في الأمر، وكان على حداثة سنه جبارا صارما شديد القسوة، ورث عن أبيه جبروته دون رقته، فقال يسأل الفنان: الحق أني أعجب لتلك السنين التي ذهبت في التمهيد والتحضير، وقد علمت أن هرم المقدسة روحه الملك سنفرو بلغ كماله في أقل من هذا العهد الطويل ...
فوضع ميرابو يده على جبهته وقال بأدب جم: ها هنا يا صاحب السمو الملكي يسكن عقل عجيب دائب على الثورة، نزاع إلى الكمال، خلاق للمثل العليا، وقد أبدع لي بعد جهد جهيد خيالا جبارا، أنا باذل روحي لتجسيمه وتحقيقه، فصبرا يا صاحب الجلالة ... وصبرا يا صاحب السمو!
وساد الصمت لحظة لما شاع في الجو من نغم موسيقى الحرس الفرعوني، التي كانت تتقدم فريقا من الحرس إلى أماكن حراستهم، وتعود بإخوانهم إلى الثكنات، وكان فرعون يفكر في كلام ميرابو، فلما خفتت أصوات الموسيقى نظر إلى وزيره خوميني كاهن المعبود بتاح رب منف، وسأله والابتسامة الجليلة لا تفارق شفتيه: هل الصبر من شيم الملوك يا خوميني؟
فتخلل الرجل لحيته بأنامله وقال بصوته الهادئ: مولاي، يقول فيلسوفنا الخالد قاقمنا وزير الملك حوني: إن الصبر ملاذ الإنسان من القنوط، ودرعه ضد الشدائد.
فضحك فرعون وسأله: هذا ما يقول قاقمنا وزير الملك حوني ... فما عسى أن يقول خوميني وزير الملك خوفو؟
فبدا التفكير على وجه الوزير الخطير وتأهب للكلام، ولكن الأمير رعخعوف لم يمهله حتى يتكلم، وقال بحماس أمير في العشرين من عمره: مولاي، إن الصبر فضيلة، كما قال الفيلسوف قاقمنا، ولكنه فضيلة لا تليق بالملوك؛ لأن الصبر تحمل للأرزاء وإذعان للشدائد، وعظمة الملوك في التغلب لا في التصبر، وقد عوضتهم الآلهة عن الصبر فضيلة القوة.
فاعتدل فرعون في جلسته، ولمعت عيناه لمعانا خاطفا، لولا الابتسامة المرسومة على شفتيه لكان قضاء مبرما، ومضى يتذكر ماضي حياته على ضوء هذه الفضيلة مليا، ثم قال بصوت حماسي كر به من الأربعين إلى ذروة العشرين: ما أجمل قولك يا بني، وما أسعدني بك! حقا أن القوة فضيلة الملوك بل فضيلة الناس كافة لو يعلمون ... لقد كنت أمير ولاية صغيرة ثم خلقت ملكا من ملوك مصر، وما سما بي من الإمارة إلى العرش إلا القوة، وكان الطامعون والمتمردون والحاقدون لا يفتئون يتربصون بي الدوائر، ويتحفزون للقضاء علي، فما أشل ألسنتهم وقطع أيديهم وأذهب ريحهم إلا القوة. وهم النوبيون مرة بشق عصا الطاعة، وزين لهم الجهل التمرد والعصيان، فهل كسر شوكتهم وألزمهم الطاعة إلا القوة؟ بل ما الذي رفعني إلى مرتبة القداسة فجعل كلمتي قانونا نافذا ورأيي حكمة إلهية وطاعتي عبادة؟ أليست هي القوة؟
صفحة غير معروفة