فقال بشارو: مولاي، لا علم لي بالطفل الذي ذبح، كل ما أعلمه تاريخ قديم ... أتاني خبره مصادفة أو عن حكمة يعلمها الرب، فكان ابتلاء لقلبي الذي يتعلق بهذا الشاب أيما تعلق، ولكن إخلاصي للعرش يهيب بي إلى روايته ...
ثم قص بشارو على مولاه - وعيناه تذرفان الدمع الغزير - قصته مع زايا وطفلها الرضيع من مبتداها إلى الساعة الرهيبة التي وقف يسترق السمع فيها إلى قصة رده ديديت الغريبة ... ولما انتهى الرجل الحزين أحنى رأسه على صدره ولازم الصمت.
واستولت الدهشة على الحاضرين، ولمعت أعين الأمراء ببريق أمل خاطف، أما الأميرة مري سي عنخ فقد اتسعت عيناها هلعا ورعبا، واصطرع في قلبها الخوف والأمل والألم ... وركزت بصرها على وجه أبيها ... أو على فمه كأنها تريد أن تمنع بروحها كلمة قد يكون فيها القضاء على سعادتها وآمالها.
والتفت الملك بوجهه الشاحب إلى ددف وسأله: أصحيح ما يقول هذا الرجل أيها القائد؟
فقال ددف بشجاعته المعهودة: مولاي! إن ما قاله السيد بشارو حق لا ريب فيه.
فنظر فرعون إلى خوميني ثم إلى أربو ثم إلى ميرابو يستغيث بهم من هول هذه العجائب، ثم قال: ما أعجب هذا!
وألقى الأمير رعباوف على ددف نظرة نارية وقال بتشف: الآن حصحص الحق!
ولكن فرعون لم ينتبه إلى قول ابنه، واستطرد يقول بصوت حالم خافت: حدث منذ نيف وعشرين عاما أن أعلنت على الأقدار حربا شعواء تحديت بها إرادة الآلهة، فجردت جيشا صغيرا سرت على رأسه بنفسي لقتال طفل رضيع، وكان كل شيء يبدو لي كأنه يسير وفق مشيئتي، فلم يزعجني داع من دواعي الشك قط، وظننت أني نفذت إرادتي وأعليت كلمتي، وإذا بالحقيقة اليوم تهزأ بطمأنينتي، وإذا بالرب يصفع كبريائي، وها أنتم أولاء ترون كيف أني أجزي طفل رع على قتله ولي عهدي باختياره خلفا لي على عرش مصر. فما أعجب هذا أيها الناس!
وأحنى فرعون رأسه حتى استند ذقنه على أعلى صدره وراح في تأمل عميق، وعلم الجميع أن الملك يبرم قضاء لن يرد فساد صمت رهيب، وانتظر الأمراء على جزع، والخوف والأمل يصطرعان في قلوبهم اصطراعا عنيفا، ورنت الأميرة مري سي عنخ إلى والدها بعينين محملقتين أطل منهما ملاك حسن يتضرع ويتوسل، وترددت الأعين اللامعة ببريق الاهتمام بين رأس الملك المنكس، وبين الشاب الباسل، الذي وقف في ثبات عظيم مستسلما للأقدار. ونفد صبر الأمير رعباوف فقال لوالده بقلق: مولاي، إنك تستطيع بكلمة واحدة أن تحقق قضاءك وتنصر إرادتك!
فرفع فرعون رأسه كمن يستيقظ من نوم ثقيل، ونظر إلى ابنه طويلا، وأدار عينيه في وجوه الحاضرين ثم قال بهدوء: أيها السادة، إن فرعون تربة صالحة كأرض مملكته يزدهر فيها العلم النافع، ولولا جهل الفتوة وعماية الشباب، ما قتلت نفوسا بريئة بغير ذنب!
صفحة غير معروفة