وقد فسر هذا المعنى بعضهم، والناس في أشكالهم أمثل. وربما كان التغابي من الإنسان للعوام، والتغاضي لهم في الأمور العظام، أحد الطرق المستقيمة إلى بلوغ المراد منهم، لأنهم متى تصوروا الإنسان صورة من هو أعلى في الفهم والضبط منهم حذروه، واستعملوا الاحتراس منه فيما ينبغي أن يحترس منه فيما لا ينبغي، واستشعروا فيه في جميع أمره الحيلة عليهم، فاستدت الطرق بذلك على معاملهم في بلوغ مراده منهم، وإذا كان عندهم مساويا لهم في العقل والحيلة والتجربة والرجلة استرسلوا إليه، وعاملوه بمثل معاملة بعضهم لبعض، فلا بأس أن يتغابى العاقل لهم، وأن يظهر ما يستديم به أنسهم واسترسالهم، ولا يفتح باستعمال غيره باب التقبض والاحتشام بينه وبينهم من غير أن يزيد في ذلك على مقار ما توجبه السياسة، فإنهم متى اجترأوا عليه وطمعوا فيه لحقه من الضرر بذلك أكثر مما يلحقه بانقباضهم عنه. وقد أمر معاوية عمرا حين أرسله للحكومة هذا الذي ذكرناه بعينه # فقال: "قد وجهتك إلى رجل قريب الغور، فلا تلقه بكل عقلك، وأجد الحز، وأصب المفصل"، ولولا مقاربة عمرو لأبي موسى وتخادعه له لما تم له ما يريد منه، وينبغي أن يجعل وكده وكده مداراتهم على طبقاتهم، وإعطاء كل صنف منهم من القول ما يرضيه، فإن العاقل من دارى أهل زمانه وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس". فإن أمكنك ذلك باستعمال الحق في بعض، والمعارضة في البعض، فقد ظفرت بما إليه أجزت الحكماء، وقصدت العلماء، وإن لم تظفر بذلك لاختلاف جبلات الناس، وأن اجتماعهم على الرضا بالشيء من الأمور العسرة الوجود، فليكن وكدك مداراة خواصهم، وأهل العقل منهم، فإن لكل قوم رؤساء وأفاضل والمرؤوسون أتباع الرؤساء، والمفضولون تبع للفاضلين، فإذا حزت رضا الرؤساء والنظراء، فإنك قد حزت رضا الجميع.
وأما الخطأ: فهو ضد الصواب ومعناه العدول عن المقصد من غير تعمد وإنما الفرق بين الخطأ والجور، وإن كانا جميعا عدولا عن الطريق المقصود والسبيل المسلوك، أن الخطأ إنما هو عدول عن الطريق بغير قصد، والخاطئ اسم الفاعل من خطئ يخطأ خطأ مثل عمل يعمل عملا وهو عامل، وقال للشاعر في خطئي.
صفحة ٢١٦