أو لا يظن أن البلاغة إنما هي الإغراب في اللفظ، والتعمق في المعنى، فإن أصل الفصيح من الكلام ما أفصح عن المعنى، والبليغ ما بلغ الماد، ومن ذلك اشتقا؛ فأفصح عن معانيه، ولم يحوج السامع إلى تفسير له بعد ألا يكون كلاما ساقطا، ولا للفظ العامة مشبها، ولذلك قال بعضهم في وصف البلاغة: هي أن يتساوى فيها اللفظ والمعنى، فلا يكون اللفظ أسبق إلى القلب من المعنى، ولا المعنى أسبق إلى القلب من اللفظ وليس بنكر مع ذلك أن يكلم أهل البادية بما في سجيتها علمه، ولا ذوو اللب بما في مقدار إرادتهم فهمه، وإنما ينكر أن تكلم الحاضرة والمولدون من العرب بما لا يعرفون، وبما هم إلى تفسيره محتاجون، وأن تكلم العامة السخفاء، بما تكلم به الخاصة الأدباء، وإنما مثل من يكلم إنسانا بما لا يفهمه، وبما يحتاج إلى تفسيره له كمثل من كلم عربيا بالفارسية، لأن الكلام إنما وضع ليعرف به السامع مراد القائل، فإذا كلمه بما لا يعرفه فسواء عليه أكان ذلك بالعربية أم بغيرها؟ ! فما جرى في هذا الباب مجراه المعهود، وسلك به [سبيله المقصود، وأتى به]، طريقه المحمود له طويل أغرب فيه: "ولنا نعم همل أغفال، ما تبض ببلال # ووقير قليل الرسل كثير الرسل، أصابتها سنة حمراء مؤزلة ليس لها علل ولا نهل، فقال - صلى الله عليه وسلم-: اللهم بارك له في محضها ومخضها ومذقها واحبس راعيها في الدثر ببائع الثمر ، وافجر له للثمد، وبارك له في المال والولد" في كلام له طويل.
وكقول الآخر في بعض سؤاله: أيدالك الرجل امرأته يا رسول الله؟ فقال: نعم إذا كان مفرحا فهذا كلام من السائل والمسئول والقائل والمجيب حسن مأثور، لأنه مفهوم بين من يخاطب به، وإنما يستنكر من ذلك الموضوع غير موضعه، والمخاطب به غير أمله، كقول أبي علقمة النحوي، وقد عثر فسقط، فاجتمعت عليه العامة فقال: "ما بالكم تتكأكأون على كأنما تتكأكأون على ذي جنة فرنقعوا"، وكقول آخر من أهل زماننا: "كنت في عقابيل من علني فتلفعت بالعفشليل، فهذا وشبه منكر قبيح لا ينبغي أن يستعمله ذو عقل صحيح، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياك والتشادق، وقال:
صفحة ١٦٤