بناء المجتمع الإسلامي
الناشر
دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة
رقم الإصدار
الثالثة ١٤١٨هـ
سنة النشر
١٩٩٨م
تصانيف
المقدمة
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإن لكل علم موضوع ومنهج، وموضوع علم الاجتماع هو الفهم العلمي للمجتمع من خلال دراسة الظواهر والنظم الاجتماعية دراسة علمية، بتطبيق المنهج العلمي الذي يقوم على طرح الفروض وتحقيقها تحقيقًا واقعيًا عن طريق الأساليب التاريخية والإحصائية والتجريبية، ودراسة الحالة والمقارنة. كل هذا بهدف الوقوف على السنن الاجتماعية والتاريخية أو القوانين التي أودعها الله تاريخ الإنسان ومجتمعه. كما يذهب المشتغلون بفلسفة العلم والمناهج، فإن الهدف من فهم الظواهر فهمًا علميًّا، هو إمكانية التنبؤ بها تمهيدًا للتحكم فيها بإذن الله، وهذا يعني أن الهدف النهائي من العلم لا بد أن يكون تطبيقًا، فالفهم والتوصل إلى القوانين مرحلة نظرية توصل إلى ميدان التطبيق لصالح الإنسان ومجتمعه.
وإذا كانت محاولات وأساليب الفهم النظري متفقًا عليها في مجال العلوم الطبيعية بين العلماء، ويظهر الخلاف بينهم في حال التطبيق، فإن الأمر مختلف في العلوم الاجتماعية، حيث إن الخلاف لا يظهر فقط عند مرحلة التطبيق، وإنما يظهر كذلك عند محاولات وأساليب الفهم النظري، بل وفي أساليب المعالجة المنهجية ذاتها. ومن هنا نجد مدارس واتجاهات وتيارات كثيرة ومتصارعة ومتناقضة، مطروحة في تراث علم الاجتماع، أبرزها التيار الوظيفي أو تيار التوازن وتيار
1 / 7
الصراع أو التيار المادي الجدلي. ونحن في مجتمعاتنا الإسلامية العربية، بحاجة إلى إعادة النظر في كل هذه التيارات المتصارعة التي ما زالت تدرس في جامعتنا، وإعادة النظر في فحصها من منظور نقدي، واستنادًا إلى الحقائق الواردة في القرآن الكريم والسنة، وإلى محاولات الفهم العلمي لواقعنا الاجتماعي من خلال دراسات واقعية هادفة وموجهة.
وقد تكفلت الشريعة الإسلامية بتقديم بناء متكامل للنظم الاجتماعية -أسرية واقتصادية وإدارية وعقابية وتربوية ... إلخ، التي تحقق النمو الروحي والعقلي والأخلاقي والاجتماعي للإنسان، وترقى به إلى مرتبة الخلافة عن الله ﷾ كما تحقق التقدم والنمو الاقتصادي والسياسي والعلمي والتكنولوجي للمجتمع الإسلامي، حتى تكتمل له أساليب القوة التي تمكنه من أداء رسالته الدينية القائمة على العدل والأخوة والمساواة، والدعوة إلى الله ﷾. وهذه النظم الاجتماعية الإسلامية تختلف بشكل جوهري عن النظم الاجتماعية الوضعية -سواء التاريخية أو المعاصرة، في أن مصدرها هو الخالق البارىء المصور الذي خلق الإنسان بجانبيه الترابي والروحي السامي، كما خلق حاجاته وتطلعاته. وخلق المجتمع والتاريخ بسننهما. هذه النظم الاجتماعية الإسلامية المتضمنة في الشريعة المنظمة لشئون الإنسان وإشباع حاجاته - تجمع بين المثالية والواقعية، أو قل إنها تحقق الواقعية الأخلاقية بالمفهوم الإسلامي الكريم - وقد وجدت مجالها للتطبيق العملي خلال فترة دولة المدينة وعصر الرسول -صلي الله عليه وسلم- وعصر الخلفاء الراشدين من بعده وخلال العصور الإسلامية المزدهرة. وإذا كانت النظم الاجتماعية الوضعية المتصارعة والمتناقضة قد أدت إلى ضياع الإنسان وسقوطه، وإلى تعاقب الأزمات والمشكلات، فإن الحل الأساسي يكمن في تطبيق شريعة الله.
وقد حاولت في الجزء الأول من كتابي هذا أن أعرض لمفهوم النظم في علم الاجتماع وأساليب دراستها سوسيولوجيًا، وللأسس البنائية للمجتمع
1 / 8
الإسلامي. ثم عرضت بعد ذلك لثلاثة نظم إسلامية محورية وهي: نظام الأسرة، ونظام التربية، والنظام الاقتصادي، مرجئًا بقية النظم إلى الأجزاء التالية من هذا الكتاب.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
أبها في ١٩/ ١/ ١٤٠١هـ
الموافق ٢٧/١١/١٩٨٠م
د. نبيل السمالوطي
1 / 9
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
أقدم لزملائي وطلابي والدارسين والمشتغلين بقضايا المجتمع الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي بفروعه المتعددة، الطبعة الثانية من "كتابي بناء المجتمع الإسلامي ونظمه" بعد أن نفدت الطبعة الأولى. وأجد لزامًا عليّ أن أقدم الطبعة الثانية مطورة منقحة، فقد أضفت في فصل "النظام التربوي في الدين الإسلامي الحنيف" فقرة عرضت فيها نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين. وقد اقتصرت على عرض أهم الآراء والمرئيات التربوية عند أكبر علماء الكوفة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري وهو الإمام أبو حنيفة، وعند أحد الباحثين المعاصرين وهو مالك بن نبي.
ولما كانت قضية تنمية المجتمعات وتحديثها من بين الموضوعات التي تحتل أهمية استراتيجية في كل العلوم الاجتماعية المعاصرة سواء على المستوى النظري والتوجهات الإيديولوجية، أو على المستوى التطبيقي، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث، فقد رأيت أن أقدم فصلًا يضاف إلى هذا الكتاب أعرض فيه لأهم قضايا التنمية والتحديث كما تتناولها العلوم الاجتماعية بشكل عام وعلم الاجتماع بشكل خاص، وأوضح فيه أهم أبعاد ومداخل التنمية المتصارعة في الفكر الاجتماعي، وأقدم المدخل الإسلامي المقترح للتنمية بوصفه مدخلًا متوازنًا متكاملًا شموليًا ينطلق من منطلقات إيمانية سواء على مستوى الدافعية أو التوجهات أو السلوك ويحقق التكامل في
1 / 11
التنمية بين الجوانب الروحية والعقلية والمادية ويركز على رعاية الإنسان بوصفه خليفة الله في أرضه، خلق لأداء رسالة معينة أرادها له الخالق ﷾. وقد وضحت الأسس الشرعية لهذا المدخل بوصفه يستند إلى الشريعة الإسلامية على كل المستويات الأسرية والاقتصادية والتربوية والقيمية والسلوكية والسياسية والدولية ... إلخ. أما بالنسبة لبقية الفصول فقد بقيت كما هي، وأسأل الله العلي القدير أن يتقبل السادة القراء هذا الكتاب بقبول حسن.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
د. نبيل السمالوطي
1 / 12
فهرس
أولا: مقدمة الكتاب ٧
مقدمة الطبعة الثانية ١١
الفصل الاول: الأسس البنائية للمجتمع الإسلامي ١٩-٥٠
١-مقدمة ٢١
٢-العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة ٢٣
٣-المفهوم القرآني للعقيدة ٢٧
٤-الفكر الاجتماعي الإسلامي ٣٠
٥-أهداف الشريعة الإسلامية ٣٣
٦-أسس العلاقات الاجتماعية الصالحة ٣٥
٧-العلاقة بين العقيدة والشريعة ٤٨
٨- مصادر الفصل الأول ٥٠
الفصل الثاني: الدراسة السوسيولوجية للنظم الاجتماعية ٥١-٧٤
١- مقدمة حول مفهوم النظم الاجتماعية ٥٣
٢- تعريف النظام الاجتماعي ٥٦
٣- خصائص النظم الاجتماعية ٥٩
٤- أنواع النظم الاجتماعية ٦٣
٥- أهداف النظم الاجتماعية ٦٧
٦- تصنيف النظم الاجتماعية ٦٨
٧- أهمية الدراسة العلمية للنظم الاجتماعية ٧٢
1 / 13
٨- النظم وأوزانها داخل البناء الاجتماعي ٧٣
٩- مصادر الفصل الثاني ٧٤
الفصل الثالث: النظام العائلي: ٧٥-١٠٨
١- الأسرة: أهميتها ووظائفها ٧٧
٢- أسس بناء الأسرة ٨٠
أ- التعرف والاختيار.
ب- الرضا الذاتي الكامل.
ج- الكفاءة.
د- المهر.
٣- الحقوق والواجبات الزوجية ٨٣
٤- نظام الأدوار والمراكز الأسرية -الحقوق والواجبات ٨٧
أ - حقوق الزوجة "مركزها" وواجباتها "دورها"
ب- حقوق الزوج وواجباته.
ج- حقوق الأبناء.
٥- نظام المحرمات من النساء في الإسلام ٩٣
أ- بسبب القرابة.
ب- بسبب المصاهرة.
ج- بسبب الرضاع.
٦- نظام التحريم على سبيل التأقيت ٩٦
٧- النظام الإسلامي لمواجهة الخلافات والمشكلات الأسرية ٩٦
٨- النظام الإسلامي لإنهاء العلاقات الزوجية مع محاولات العلاج١٠١
٩- الإسلام وقضية تعدد الزوجات ١٠٣
١٠- مصادر الفصل الثالث ١٠٨
الفصل الرابع: النظام التربوي ١٠٩-١٨١
١- مقدمة ١١١
٢- نماذج قرآنية للتربية ١١٨
٣- نماذج من أقوال الرسول ﵊ ١٢١
٤- أهداف التربية الإسلامية ١٢١
٥- ميادين التربية الإسلامية ١٢٣
أ- الميدان الأول: تلاوة الآيات.
1 / 14
ب- الميدان الثاني: التزكية بجوانبها المختلفة.
ج-الميدان الثالث: تعليم الكتاب.
د- الميدان الرابع: تعليم الحكمة.
٦- أهم الأسس العامة التي تقوم عليها التربية الإسلامية ١٣٥
٧- أساليب التربية الإسلامية ١٤١
٨- التربية الإسلامية وقضية الصحة النفسية ١٥٥
٩- مؤشرات الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي ١٥٩
١٠- مبادئ التعلم في التصور الإسلامي للتربية ١٦٣
١١- نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين ١٧١
١٢- مصادر الفصل الرابع ١٨٠
الفصل الخامس: النظام الاقتصادى ١٨٣-٢٨٣
١- مقدمة ١٨٥
٢- المنظور الإسلامي للمال والثروة المالية ١٨٦
٣- أساليب تحصيل الثروة المادية ١٨٦
٤- دعوة الإسلام إلى الاستثمار ١٨٩
٥-الأسس البنائية للاقتصاد الإسلامي ١٩٢
٦-نظام الملكية في الإسلام ١٩٩
- مقدمة حول موقف الإسلام من الملكية الخاصة.
- واجبات التملك.
- ضوابط الملكية الخاصة.
- أساليب اكتساب الملكية وموقف الإسلام منها:
١- الكسب بالانتظار.
٢- العمل.
٣- المخاطرة.
٤- الزراعة وإحياء الأرض الموات.
٥- العقود الناقلة للملكية.
٦- الميراث والوصايا.
٧- نظام المعاملات المالية في الإسلام ٢٣٣
٨- علاقات العمل في الإسلام ٢٤٠
٩- الواقعية الاقتصادية -تكافؤ الفرص وتفاوت الثروات -
في مقابل المثاليات والمادية المتطرفة ٢٤٣
1 / 15
١٠- العدالة الاقتصادية في الإسلام ٢٤٥
١١- أسلوب مواجهة المشكلات الاقتصادية.٢٤٩
أولًا: مواجهة مشكلة الفقر.
ثانيًا: مواجهة التمايز والصراع الطبقي.
ثالثًا: مواجهة مشكلة البطالة.
١٢- تحقيق الاستقلال الاقتصادي للمجتمع الإسلامي ٢٦١
١٣- التوجيه الاقتصادي في الإسلام ٢٦٢
١٤- الوظائف الاقتصادية للدولة ٢٦٤
١٥- مسئولية الدولة عن الأموال العامة ٢٦٨
١٦- مسئولية الدولة عن الضمان الاجتماعي ٢٦٩
١٧- الملكية العامة وضوابطها ٢٧١
١٨- الفكر الاقتصادي في التراث الإسلامي -ابن خلدون- ٢٧٥
١٩- مصادر الفصل الخامس ٢٨١
الفصل السادس: قضايا التحديث والتنمية في علم الاجتماع
مع طرح مدخل إسلامي مقترح ٢٨٥-٣٤٨
١- مقدمة حول دراسات التنمية والتحديث
في علم الاجتماع ٢٨٩
٢- التحديث وارتباطه بالتصنيع ٢٨٩
٣- التحديث والتغير الاجتماعي ٢٩٥
٤- التحديث الحضاري -شروطه- مداخله -معوقاته ٣٠١
٥- اتجاهات دراسة التحديث في الدول النامية ٣٠٤
- تحديث البناء الاجتماعي ٣٠٤
- التحديث الفردي أو السيكولوجي ٣٠٤
٦- التحديث الفردي وقضية الالتزام الجماهيري
بقضايا المجتمع والتنمية ٣٠٩
٧- نماذج من المعوقات الإستراتيجية أمام تحديث
الدول النامية ٣١٢
٨- التحديث والتنمية -العلاقة بينهما- أبعاد التنمية ٣١٧
- مداخل دراسة التنمية الاجتماعية الشاملة ٣١٧
٩- المدخل الإسلامي المقترح لدراسة وفهم التنمية ٣٢٢
١٠- أبعاد التنمية الاجتماعية المتكاملة في الإسلام ٣٢٣
- البعد الفكري والعقائدي والبعد التفسيري
1 / 16
للإنسان والمجتمع ٣٢٤
- البعد الاقتصادي والتنمية الاقتصادية ٣٢٤
- بعد علاقات العمل والتنمية المهنية ٣٣٢
- البعد التعليمي والتنمية التربوية ٣٣٨
- البعد النفسي وبناء الشخصية ٣٣٨
- البعد الصحي والتنمية الصحية ٣٣٩
- البعد الاجتماعي والتنمية القيمية -وحقوق الإنسان ٣٣٩
- البعد الإداري والتنمية الإدراية ٣٤٠
- البعد السياسي والتنمية السياسية ٣٤١
- البعد الدولي والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية،
الدولة الصحيحة ٣٤٢
١١- مصادر الفصل السادس ٣٤٥
1 / 17
الفصل الأول: الأسس البنائية للمجتمع الإسلامي
مقدمة
يقيم الدين الإسلامي الحنيف بناء مجتمع إسلامي يتسم بالقوة والتعاون والتكامل والتقدم التربوي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ويتميز أعضاؤه بشخصية متميزة سوية قادرة على العمل البناء والإنتاج، وعلى الحب والعطاء، وتكوين علاقات راضية مرضية مع الذات والآخرين.
ويكمن مفتاح هذه الشخصية الإسلامية المتمتعة بالصحة النفسية من الإيمان -اليقين- الكامل بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والاتسام بالأخلاق الإسلامية التزامًا وليس إلزامًا، ومراقبة الله سرًّا وعلنًا. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: ٧٧-٧٨] .
فالمسلم عليه أن يعبد الله ركوعًا وسجودًا وصومًا وحجًّا وزكاةً. وأن يوحده ويشهد ألا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إلى جانب سلوك طريق الخير قولًا وسلوكًا ونيةً. وإلى جانب إقامة الصلاة، فالقرآن الكريم -في الآيات السابقة- يوجهنا إلى ضرورة إيتاء الزكاة تحقيقًا للعدالة الاقتصادية، وللتراحم والتكافل بين الناس، وللحيلولة دون ظهور الحقد الطبقي بين الأغنياء والفقراء، هذا إلى جانب الاعتصام بالله سبحانه.
1 / 21
ويمكن القول: إن الدين الإسلامي دين ودولة، عبادة وسيادة، اقتصاد وجهاد، مصحف وسيف، تربية فردية وتعاون جماعي.
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥]
﴿... وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥] .
وسبيل المؤمنين هو الذي طبقه الرسول ﵊، وطبقه أصحابه من بعده -عليهم الرضا من الله سبحانه- فقد كانوا يصلون بالناس في المساجد، ويقودون العسكر في الحروب، ويفصلون في قضايا الرعية في المحاكم، ويتعهدون الأفراد والجماعات بالإرشاد والتوجيه، وإنكار المنكر وإقرار المعروف. ويراقبون سياسة عمالهم ونوابهم في المدن والأمصار، فيعزلون الجائر المنحرف، ويبقون الأمين المستقيم. ويشير أبو الأعلى المودودي إلى خصائص الدين الإسلامي الشمولية بقوله١: "إن الدين الذي تؤمن به يجب أن تفوض إليه شخصيتك كاملة، ولا تستثني منها جزءًا من أجزاء فكرك أو عملك. ومن مقتضيات الإيمان اللازمة أن تدخل في السلم كافة، حتى يكون ذلك الدين دينا لعقلك وقلبك وعينيك وأذنيك، وليدك وجسمك ورجلك وجسدك، ولقلمك ولسانك، ولبيتك، وأطفالك وزوجتك، ولمدرستك ومجتمعك، ولتجارتك ومكاسب رزقك، ولسياستك وحضارتك وأدبك. ثم لا تنسَ أن تنشر مكارم هذا الدين الذي آمنت به وتثبت محاسنه وفضائله، وتدعو البشر كافة للإيمان به والدخول فيه. قال الله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٣]
ويؤكد القرآن الكريم على الدلائل الساطعة الجلية التي بثها الله في الآفاق وفي النفس لإثبات وحدانيته الكاملة. يقول تعالى:
1 / 22
- ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام- ١١٤]
- ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام- ١٤]
- ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام- ١٦٤]
- ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا﴾ [الأنعام- ٧١]
- ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ...﴾ [الزمر- ٣٨]
- ﴿وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس- ٢٢]
- ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾ [الصافات- ١٢٥]
- ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل- ١٧]
- ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور- ٣٥]
العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة: تحتل العقيدة مكانة كبرى لدى كل إنسان -حتى الملحد- ولدى كل المجتمعات، حتى تلك التى لا تعترف بالأديان. وتعد العقيدة الموجه الأساسي لسلوك الفرد، حيث تتحول إلى موجهات قيمية Value Orientations تترجم إلى واقع سلوكي. فالمعتقدات هى التي تحكم وتصبغ وتحدد القيم، وهذه الأخيرة هى التي تحدد مسارات السلوك وتضبطه وتحكمه وتوجهه.٢ ويطلق مفهوم العقيدة faith على التصديق الناشيء عن إدراك شعوري أو لاشعوري يقهر صاحبه على الإذعان لقضية ما٣. وقد اهتم العلماء الغربيون والمسلمون بقضية العقيدة لأسباب دينية وفلسفية وفقهية، ومن الغربيين الذين اهتموا بدراسة هذا الموضوع جوستاف لوبون j.Lobon الذي يُعرِّف العقيدة بأنها: "إيمان ناشئ عن مصدر لا شعوري يكره الإنسان على التصديق بقضية من
العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة: تحتل العقيدة مكانة كبرى لدى كل إنسان -حتى الملحد- ولدى كل المجتمعات، حتى تلك التى لا تعترف بالأديان. وتعد العقيدة الموجه الأساسي لسلوك الفرد، حيث تتحول إلى موجهات قيمية Value Orientations تترجم إلى واقع سلوكي. فالمعتقدات هى التي تحكم وتصبغ وتحدد القيم، وهذه الأخيرة هى التي تحدد مسارات السلوك وتضبطه وتحكمه وتوجهه.٢ ويطلق مفهوم العقيدة faith على التصديق الناشيء عن إدراك شعوري أو لاشعوري يقهر صاحبه على الإذعان لقضية ما٣. وقد اهتم العلماء الغربيون والمسلمون بقضية العقيدة لأسباب دينية وفلسفية وفقهية، ومن الغربيين الذين اهتموا بدراسة هذا الموضوع جوستاف لوبون j.Lobon الذي يُعرِّف العقيدة بأنها: "إيمان ناشئ عن مصدر لا شعوري يكره الإنسان على التصديق بقضية من
1 / 23
القضايا من غير دليل" ويلاحظ هنا: أن لوبون يحيل العقائد إلى قضايا لا شعورية مفروضة على الإنسان لا دليل عليها، قد تطابق الواقع وقد لا تطابقه*. ويميز لوبون بين العقيدة faith والمعرفة Knowledge فالأولى عبارة عن إلهام لا شعوري يصدر عن أسباب خارجية دون إرادة الإنسان، أما المعرفة فهي علم يحصل بفعل التفكير العقلي المتزن، ويذهب الباحث المذكور إلى أنه كثيرًا ما يحدث أن تنشأ العقيدة في النفس دون دليل، ثم يحاول الإنسان إيجاد ما يبررها عقليًّا. وهذه العملية -عملية التبرير rationalization- هي إحدى ميكانزمات الدفاع اللاشعورية Defence Mechanism التي يلجأ إليها الإنسان للدفاع وتبرير بعض الدوافع اللاشعورية غير المعقولة.
ويحاول "لوبون" تفسير كيفية ظهور المعتقدات من خلال الرجوع إلى عدة عوامل، مثل: طبيعة الشعوب وما تتسم به من طبائع وأخلاقيات وتقاليد، وما يسودها من نظم -اجتماعية اقتصادية وسياسية وعائلية ... - وتوجيهات ومضامين تربوية.. هذا على مستوى المجتمع؛ أما على مستوى الأفراد، فإن أهم العوامل التي تسهم في تشكيل العقائد لدى الأفراد هي الأخلاق الموروثة والمكتسبة٤، والمثل العليا لهؤلاء الأفراد والمنافع والحاجات. هذا إلى جانب أثر الإطار الثقافي والاجتماعي لهؤلاء الأفراد، ومختلف عوامل صياغة وتشكيل الفكر والرأي، ومسائل اتصال جمعية وشخصية**.
ويشير "لوبون" إلى حاجة الإنسان إلى العقيدة؛ لأنها تمثل الغذاء الروحي والفكري له، وتحقق له الهدوء والاستقرار النفسي، ولعل هذا هو ما يفسر سعي
_________
* يلاحظ هنا أن لوبون يقدم تعريفًا عامًّا للعقيدة -سواء الصحيحة أو الزائفة- لكنه أخطأ عندما حولها إلى قضايا لاشعورية مفروضة على الإنسان.
** واضح هنا: الخلط وعدم الدقة العلمية فلا يوجد ما يطلق عليه الأخلاق الموروثة، فهناك دوافع عامة موروثة، وهي عامل مشترك بين البشر جميعًا -وضمن هذه الدوافع دافع التدين والارتباط بالخالق- أما الأخلاق بمعنى الموجهات السلوكية والمعايير ونماذج السلوك الفاضل -حسب معتقد الشخص وحسب معايير الاستواء والانحراف- فهي كلها أمور يكتسبها الإنسان من بيئته الاجتماعية من خلال عملية الصياغة الثقافية والتنشئة الاجتماعية.
1 / 24
الإنسان المستمر للارتباط بعقيدة ما من أجل إشباع الحاجة النفسية للعقيدة.
والعقيدة عامل ضابط Controling Factor في حياة الفرد وسلوكه، وكلما ازداد يقين الفرد بعقيدة معينة، زاد التزامه فكريًّا وسلوكيًّا بمقتضياتها. ونلاحظ صدق هذه الفكرة واضحًا في إقدام أصحاب العقيدة إلى التضحية بأنفسهم في سبيل عقيدتهم -سواء أكانت عقيدة صحيحة أم فاسدة- ومن نماذج التضحية بالنفس في سبيل العقيدة الصحيحة: إقدام المسلم على الاستشهاد في سبيل الله واستعذابه للموت دفاعًا عن دينه. ومن أبرز نماذج التضحية بالنفس في سبيل العقائد الزائفة: إقدام بعض فرق البوذية في جنوب شرق آسيا على الانتحار الجماعي بالحرق، تنفيذًا لبعض تعاليم البوذية.
وإذا كانت العقيدة تسهم في صياغة الشخصية المتماسكة، فإنها تسهم كذلك في تحقيق تماسك الجماعة Group Cohesion وتحقيق التكامل الاجتماعي Social Integration على مستوى المجتمع كله، لما تحققه من الشعور بالترابط والتقارب والإلفة والقوة بين أبناء العقيدة الواحدة؛ نتيجة لوحدة المنطلق ووحدة الهدف.
والعقيدة في نظر الإسلام هي الجانب النظري الذي يطلب إلى المسلم الإيمان به أولًا وقبل كل شيء إيمانا لا يرقى إليه شك، ولا تؤثر فيه شبهة. ومن طبيعتها: تضافر النصوص الواضحة على تقريرها، وإجماع المسلمين عليها من يوم أن ابتدأت الدعوة، مع ما حدث بينهم من اختلاف بعد ذلك فيما وراءها، وهي دعوة كل الرسل السابقين كما أخبرنا القرآن الكريم نفسه٥:
- ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة - ١٣٦] .
ويشير المدلول اللغوي لكلمة -عقيدة- إلى ما انعقد عليه القلب وتمسك به وصعب تغييره، سواء نتيجة لوهم زائف أو نتيجة لدليل صادق. كذلك يصح استخدام -عقيدة- لغويًّا بمعنى الاقتناء حيث يقال: "اعتقد ضيعة أو مالًا" أي:
1 / 25
اقتناهما٦. ويعرف علماء الكلام العقيدة بأنها "الإيمان المطابق للواقع الثابت بدليل أو الإدراك المطابق للواقع الناشئ عن دليل". وواضح هنا الفرق بين هذا التعريف للعقيدة عند علماء الكلام، وتعريف بعض علماء الغرب -مثل بين هذا التعريف للعقيدة عند علماء الكلام، وتعريف بعض علماء العرب- مثل "لوبون" - فهذا التعريف الذي أورده علماء الكلام لا ينطبق إلا على الإسلام -وهو العقيدة الصحيحة- ولا ينطبق على الاعتقادات المخالفة للإسلام؛ لأنه ينقصها الدليل، ولا تطابق الواقع. وقد اختلف العلماء عند بحث قضية التقليد في الاعتقاد، فمنهم من أوجب التقليد حتى لا يكون البحث العقلي مؤديًا إلى الضلال. لكن القرآن الكريم نفسه ينعي على المقلدين تقليدهم، ويدعو إلى إعمال العقل والنظر في الآفاق وفي النفس؛ حتى يتبين للناس أن الله هو الحق، لكن القرآن الكريم يطالب المؤمن أن يكون على يقين بالغيب. ولا يناقش بعض الأمور التي تتجاوز عقله المحدود ويختص بها سبحانه فقط، كالروح مثلًا، وذات الله ... إلخ. ومن العلماء من أجاز التقليد وأجاز البحث عن الدليل، طالما أن الغاية الأساسية هي الوصول إلى الإيمان الصحيح والقناعة العقلية والوجدانية. فلو وصل الإنسان إلى هذه الغاية عن طريق التقليد جاز ذلك، ولو أراد النظر والبحث جاز ذلك لحصول المقصود في كلتا الحالتين. قال الإمام الغزالي٧: "إن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهدية من عنده، تارة بتنبيه في الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بسبب مشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال....
والحق الصريح أن كل من اعتقد فيما جاء به ﵊، اشتمل عليه المستمد من الدليل الكلامي ضعيف جدًّا مشرف على الزوال بأقل شبهة، والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل على قلوبهم في الصبا بتواتر السماع، أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها.
وهناك من علماء المسلمين من أجاز التقليد وأوجب إعمال العقل، حيث يجب على من كان من أهل النظر القادرين أن يعمل نظره، وحجتهم أن النظر
1 / 26
هو الطريق إلى الإيمان الكامل، فإن وصل الإنسان إلى الإيمان الكامل بدون نظر كانت معرفته ناقصة، وكان آثمًا -إن كان من القادرين على التفكير والبحث.
وهناك من الباحثين من جعل التقليد باطلًا والنظر واجبًا لأن الله سبحانه يأمرنا بالنظر:
﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس - ١٠١]، وهناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تحض على إعمال العقل نذكر منها:
﴿إِنّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة - ١٦٤] . وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [الزمر-٢١] .
وقال تعالى في معرض عرض سنن الله في التاريخ والمجتمع: ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ [غافر- ٢١] . وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج - ٤٦] .
المفهوم القرآني للعقيدة: يوجه القرآن الكريم نظر الإنسان وفكره إلى كل ما يحيط به وإلى ذاته ونفسه، حتى إذا ما كان النظر والفكر سليمًا فإنه سوف يصل حتمًا إلى العقيدة الصحيحة وهي التوحيد. وهذا التوجيه القرآني الكريم أبسط وأبلغ وأعمق وأنفذ من كل دلائل الفلاسفة والمتكلمين. يقول تعالى: - ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ
المفهوم القرآني للعقيدة: يوجه القرآن الكريم نظر الإنسان وفكره إلى كل ما يحيط به وإلى ذاته ونفسه، حتى إذا ما كان النظر والفكر سليمًا فإنه سوف يصل حتمًا إلى العقيدة الصحيحة وهي التوحيد. وهذا التوجيه القرآني الكريم أبسط وأبلغ وأعمق وأنفذ من كل دلائل الفلاسفة والمتكلمين. يقول تعالى: - ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ
1 / 27
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٣٧-٤٠] .
- ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٤-٥] .
ويطرح القرآن الكريم مجموعة من التساؤلات أمام عقل الإنسان ليس لها سوى إجابة واحدة سليمة، ومثال هذا:
- ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: ٣٥]
- ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣-٦٤] .
- ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ﴾ [الواقعة: ٧١-٧٢] .
هذه التساؤلات وغيرها ليس لها سوى إجابة واحدة وهي -الله-، ذلك أنها تثير قضية الخلق ولا الخالق إلا الله سبحانه. ومن الواضح أن الله سبحانه وهو يخاطب عقل الإنسان ينتقل به من المحسوس إلى الغيبيات، ومع أن الإيمان بالغيب شرط أول للإيمان، إلا أن القرآن مع هذا يقدم مختلف صور الإقناع والتدليل البليغ على وجود الله استنادًا إلى طبيعة تفكير البشر. ويمكن إيجاز أهم أركان العقيدة الإسلامية في قوله تعالى:
- ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] .
وإذا كانت العقيدة هي الجانب النظري الذي يطلب الإيمان به إيمانًا يقينيًّا، فإن الشريعة هي النظم التي شرعها الله سبحانه أو شرع أصولها
1 / 28
ليأخذ الإنسان بها نفسه من علاقته بربه، "وسبيلها أداء الواجبات الدينية كالصلاة والزكاة والصوم ... " وعلاقته بأخيه المسلم "وسبيلها تبادل المحبة والتناصر والأحكام الخاصة بتكوين الأسرة والميراث ... "، وعلاقته بأخيه الإنسان "وسبيلها حرية البحث والنظر في الكائنات التي سخرها الله سبحانه للإنسان واستخدام آثارها في رقيه"، وعلاقته بالحياة "وسبيلها التمتع بلذائذ الحياة الحلال أي ما أحله الله دون إسراف أو تقشف شديد".
ويدرك الباحث في كتاب الله الكريم أن القرآن قد عبر عن العقيدة بالإيمان وعن الشريعة بالعمل الصالح، ومثال هذا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: ١٠٧-١٠٨] . ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] . وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر] . وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: ١٣] .
ولهذا فإن الإسلام لا ينطوي على عقيدة فقط، تنظم علاقة الإنسان بربه فحسب، وإنما ينطوي كذلك على شريعة توجه الإنسان إلى نواحي الخير في الحياة، وتقيم مجتمعا يحقق القوة والتعاون والتكامل والتكافل. فالإسلام دين عقيدة وشريعة يستغرق ويوجه حياة الإنسان الذاتية والاجتماعية من المهد إلى اللحد، يقول تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٤] .
1 / 29
الفكر الاجتماعي الإسلامي
مدخل
...
الفكر الاجتماعي الإسلامي:
تتضمن الشريعة الإسلامية التي تؤسس على كتاب الله الكريم وما صح عن رسول الله ﵊، أقوى المبادئ، والأسس التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين الناس بعضهم ببعض، وبينهم وبين خالقهم سبحانه. ولعل القيمة الكبرى للتنظيم الإسلامي أنه لا يقتصر على التنظيم القانوني الخارجي وتوجيه السلوك الخارجي للإنسان، لكنه يمتد لتنظيم بناء الإنسان الداخلي، وتوجيه السلوك الخارجي للإنسان، ولكنه يمند لتنظيم بناء الإنسان الداخلي -الدافعي والقيمي والمعياري- فالإيمان هو ما وقر في القلب -داخلي- وصدقه العمل -خارجي- ويقرن القرآن الكريم دائمًا الإيمان بالعمل:
﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر] . ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ٩-١٠] .
وتقوى الله هي الأساس الأول في ضبط علاقات الإنسان داخل مختلف الجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها الإنسان، مثل جماعة الأسرة وجماعة العمل وجماعة الأصدقاء داخل المجتمعين المحلي والعام. كذلك فإن التقوى تضبط علاقة الإنسان بخالقه وتضبط سلوكه وتجعله فاعلًا ملتزمًا من الداخل، وليس مجرد رد فعل Reaction للمثيرات الخارجية فحسب، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] . وقال تعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ٧٠] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرا﴾ [الطلاق: ٤] . وعن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل، كانت في النساء"، رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي
1 / 30