قلت لصديقي: لم أفهم شيئا من هذا الخليط العجيب.
فقال: كنت بادئ الأمر في مثل حيرتك، عندما توقعت أن أدخل «وكالة البلح» كما عرفتها، وإذا الذي أراه هو هذه المشاهد، لكني حين أدركت أنها هي وكالة البلح، إلا إنها استبدلت بضاعة ببضاعة، فبضاعتها اليوم هي ذلك الشيء الذي يسمونه «ثقافة».
قلت في دهشة صارخة: ثقافة! وأين الثقافة في عينين ساحرتين وأرنبين مسحورين؟
قال الأمر واضح، أما العينان فهما الرأي العام يرقب، وأما الأرنبان فهما رجال الثقافة جمدت أوصالهم برقابة الرأي العام!
هنا تنبهت من غفوتي السارحة، فوجدت القلم لم يزل بين أصابعي - والورق أمامي - فسألت نفسي: ماذا أكتب بعد تلك المساخر التي رأيتها، فأجابت النفس قائلة: اكتب عن تلك المساخر التي رأيتها.
اختلط الحابل بالنابل
هي صيغة لفظية جميلة، حفظناها عن الأقدمين، لنلخص بها - كما فعل قائلوها الأولون - كثيرا جدا من حقائق الحياة التي تحيط بالإنسان أحيانا، فيصعب عليه فهمها لاختلاط بعضها ببعض، ولو أنه عرف كيف يرتبها ترتيبا صحيحا لاستقامت له واستقامت حياته تبعا لذلك، والأصل في هذه الصيغة اللفظية هو أنها قيلت لتصف موقفا كان فيه جماعة من الصيادين، اختلفت أنواعهم اختلافا أمكن تلخيصه في نوعين: فنوع منهما هو جماعة الصيادين الذين كانت وسيلتهم في الصيد، هي أن يضعوا شباكا من حبال يخفونها بغطاء من الرمل والحصى، فإذا جاءت المصادفة بصيد كبير، كأن يكون سبعا أو نمرا، وقع في الفخ وقبضته شبكة الحبال قبضة يحكمها الصائد الحابل، ليحمل صيده إلى سوق البيع والشراء، ذلك هو الحابل، وأما النابل فهو من جعل أداته في الصيد «نبلة» أو مجموعة نبال، والأرجح في هذه الحالة أن يكون الصيد طيرا من مختلف أنواع الطير، ويبدو أنه قد أقيمت سوق يعرض فيها الصيادون صيدهم.
الحابل منهم والنابل جميعا، كما يبدو كذلك أن شيئا حدث في السوق، مما جعل الصيادين وصيدهم يتداخلون في خليط مزدحم، بحيث تعذر على الصائد أن يميز صيده في ذلك الزحام، كما يتعذر على الشاري أن يجد البائع ، فقد اختلط الحابل بالنابل.
شيء كهذا هو الأصل الذي جاءت هذه الصورة اللفظية لتصوره، لكنها صورة كان لها من بلاغة التعبير ما جعلها - عند التطبيق تجاوز أصلها لتصدق على كثير جدا من مواقف الحياة العملية، مما يدعونا أن نسأل: ماذا في الصورة الأصلية كان هو الجانب الذي استطاعت به أن تنال من سعة الشمول ما نالته بالفعل على ألسنة الناس، ليس في جيل واحد، ولا في عشرة أجيال، بل عبر عصور لا أدري كم طال أمدها، منذ كان القائل الأول، وإلى هذه اللحظة التي يريد فيها هذا الكاتب أن يستثمر ذلك القول القوي، الغني مبنى ومعنى.
كان ذلك الجانب من العبارة، الذي مكنها من البقاء هو الحقيقة الصورية المنطقية، التي هي إحدى الصور العقلية البسيطة التي على منوالها ينسج الإنسان ما ينسجه من فكر صائب، في حالات لا تكاد تقع تحت حصر، وأعني بتلك الحقيقة الصورية البسيطة، وجوب الفصل بين نوعين، إذا لم يكن بينهما ما يجعل أحدهما يتداخل مع الآخر، حتى لا يختلط - في عالم الأفكار - ضأن وماعز، أو قمح وشعير.
صفحة غير معروفة