على أن الإنسان، بحكم تكوينه العقلي، لا يدع متفرقات خبرته متناثرة، كل حالة مفردة منها تقوم وحدها، بل هو يستخلص من المتفرقات التي منها تتكون أسرة متجانسة، الجانب المشترك بينها، ليجعله في ذهنه تصورا واحدا، ويطلق عليه اسما، فيضم ذلك التصور العقلي الواحد تحت عباءته جميع أفراد الأسرة المتجانسة، ويصبح ذلك الاسم الواحد رمزا يشير إلى كل حالة من الحالات ذات الطابع الواحد، وعلى هذا الأساس فإنه مع تعدد الحالات الواقعية، التي تتوافر فيها صفة «الحق» فإن العقل يستخلص منها تصورا واحدا عاما وشاملا، ويطلق عليه اسما هو كلمة «الحق» في تجريدها وشمولها.
ومع ذلك فلا بد لنا، كلما أردنا أن نتحقق من مشروعية اسم من تلك الأسماء الكلية المجردة، من أن نرده إلى حالة واحدة معينة، على الأقل، من مجموعة الحالات التي كونت أسرة، والتي أنشأنا لها ما أنشأناه من «تصور» عقلي، ثم أطلقنا عليه اسمه الدال عليه، فإذا قيل لنا: هل فكرة «الحق» على إطلاقها، ذات معنى واضح؟ أجبنا قائلين: تعالوا نبحث عن مفرد من مفردات أسرتها في الحياة الواقعة في خبرات الناس؛ فإذا وجدنا ذلك المفرد - ودع عنك أن نجد عدة مفردات - فقلنا: نعم إنها فكرة واضحة المعنى، ووضوحها راجع إلى قيام الحالات الواقعية التي منها استخلصت تلك الفكرة، ولعل هذا الموضع من الحديث، هو الموضع الذي نذكر فيه بإيجاز، شيئا عن صفة «الحق» حين تكون اسما من الأسماء الحسنى، فلئن كانت هذه الصفة صالحة لوصف مواقف في حياة الناس، منظورا إليها من زاوية القدرات الإدراكية عند البشر، فهي في هذه المواقف جميعا صفة «نسبية»، أما «الحق» الذي هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، فهو العلم بحقائق الكون علما مطلقا لا يتعرض لبطلان؛ لأنه ليس لعلم الله تعالى مزيد يضاف إليه، فهو علم كان منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد علما كاملا: يكون به «الحق» حقا كاملا.
لقد عدل الشيطان - كما صوره العقاد في قصيدته «ترجمة شيطان» - على فخ «الحق» في غوايته وتضليله لبني آدم، افتراضا منه بأن «الحق» فضفاض المعنى، يختلف حوله الناس باختلاف منافعهم وأهوائهم؛ فلو أن هؤلاء الناس قد تعلموا كيف يحددون معنى «الحق»، استنادا إلى حالاته التطبيقية في واقع حياتهم، منتهين من تلك الحالات الجزئية إلى تصور «الحق» في عموميته وتجريده، لا بادئين بهذا التصور العام المجرد، لخاب رجاء الشيطان في غوايتهم؛ لأنه كلما اختلف اثنان على «حق» جزئي في موقف معين معلوم، لجأ الخصمان إلى الموقف بطرفيه اللذين ذكرناهما: الطرف المقيس من جهة وطرف المعيار الذي يقاس به من جهة أخرى، فلا يلبث ضباب الغموض أن ينقشع، ولا يسع المخاصمين إلا أن يتفقا، ويقف الشيطان في هزيمته رجيما.
صورة مصغرة
كان في حياتي العلمية موقف، ظننته أول الأمر حجر عثرة على الطريق، يضاف إلى عشرات من العقبات التي شاء لي ربي أن أمتحن بها؛ فإما أفلحت في اجتيازها، وإما هويت في القاع، لكن ذلك الموقف الذي أشرت إليه، لم يلبث أن تكشف عن نعمة كبرى؛ وذلك أن الأستاذ الذي وكل إليه الإشراف علي في إعدادي لرسالة الدكتوراه في جامعة لندن، كان في رؤيته الفلسفية على نقيض رؤيتي، وعلى الرغم من أن البحث العلمي بحث علمي، ومن شأنه أن يقيم خطواته ونتائجه على أسانيد موثقة، إلا أن وراء ذلك السطح العلمي الخالص توجها يميل بصاحبه نحو أن يختار موضوعه من مجال فكري معين، وهذا في ذاته يضع أمام الباحث نقطة بدء يكون لها تأثيرها في اتجاه السير، كان الأستاذ ممن يؤمنون بأن المعرفة البشرية وليدة أفكار أولية مفطورة في العقل، وكنت ممن يؤمنون بأن المعرفة البشرية صنفان: صنف منها قائم على العقل الخالص وما فطر فيه ، وصنف آخر لا بد له أن يكتسب من معطيات تجريبية تأتي من مصادر خارج الإنسان وتؤثر في حواسه، فالموجات الضوئية تؤثر في العين، والموجات الصوتية تؤثر في الأذن، وهكذا، ولكل من وجهتي النظر نتائجها في فهم الإنسان لحقيقة نفسه، وحقيقة العالم الذي يعيش فيه، وإلى هذا الحد من التباعد النظري منذ البداية، بل قبل البداية، كان الموقف بين الأستاذ المشرف، والباحث الذي جاء ليهتدي بما يرسمه له أستاذه من خطوات السير، وبرغم هذا التباعد النظري، أقبل الأستاذ على مهمة الإشراف سعيدا بها، وأقبل الطالب على خوف من أن تكون الحياة قد وضعت له حجرا يتعثر به، كما عودته في سابق أيامه ألا تدع له مرحلة واحدة منسابة الخطوات في غير خطر من عثرة فسقوط.
وكان بين الطالب وأستاذه لقاء أسبوعي، يعد له الطالب نفسه إعدادا ليس في قدرته إعداد يزيد عليه، وكان الأستاذ في غير حاجة إلى إعداد سابق لأي شيء، فهو ذو علم واسع يمكنه من الكشف عن مواضع الضعف فيما أعده الطالب، وأغلب المواضع التي يكشف عنها، إنما هي مواضع نقص من وجهة نظره التي ترد كل معرفة إلى صورة في فطرة العقل - كما أشرت فيما أسلفته - وبالطبع كان على الطالب إما أن يجد ما يرد به معتمدا على الأسس الحسية التجريبية التي اقتنع بها، وإما أن يجد نفسه مضطرا إلى تغيير الإطار المنهجي بأسره، فكان هذا التحدي، أسبوعا بعد أسبوع، هو النعمة الكبرى، التي جاءتني من قلب الخطر الذي كنت أخشاه؛ إذ أتيح لي أن أرهف قدرتي النقدية إرهافا، لم يكن ليتحقق لي جزء منه، لو لم أجد أمامي أستاذا، كان بحكم تكوينه العقلي على مذهب مخالف قادرا على إخراج المواضع الإشكالية بين المذهبين، والحق أنه كثيرا ما كان يواجهني مشكلات يرفضها السامع لأول وهلة؛ لأنها تبدو مفتعلة وغير معقولة، ولكن دارس الفلسفة سرعان ما يفيق من سذاجته الفكرية؛ لأنه مما يميز الفكر الفلسفي أنه فكر لا يريد بادئ ذي بدء أن يسلم لفكرة كائنة ما كانت بأنها تفرض نفسها على العقل لنصوع صوابها، بل لا بد لكل فكرة عند دارس الفلسفة من سند منطقي تقام عليه. وأضرب لذلك مثلا مما ورد في الحوار بين ذلك الأستاذ وطالبه، فلست الآن أذكر ماذا كان سياق الحديث بينهما، الذي دعا الطالب أن يقرر - بغير برهان - بأن الإنسان وحده، دون سائر الحيوان هو القادر على توليد المعاني استدلالا لبعضها من بعض، فاعترضه الأستاذ قائلا: من أين لك بهذا الحكم؟ وأجاب الطالب قائلا: كان ديكارت وكلبه ناظرين إلى المدفأة، وهي اللحظة التأملية الديكارتية المعروفة، التي أشرقت فيها على ديكارت فكرة الشك المنهجي، الذي يدعوه إلى إعادة النظر في كل ما يعرفه، ليبحث أولا عن مبدأ أولي يجيء الشك فيه مناقضا لنفسه، فيؤخذ مثلا هذا المبدأ اليقيني أساسا يقام عليه البناء المعرفي كله، خطوة مستولدة من خطوة، فهل كان مثل هذا التأمل وما نتج عنه، في مقدور كلبه الذي أقعى بجواره ينظر إلى المدفأة؟
هكذا أجاب الطالب أستاذه إجابة جاءت تحمل بدورها سؤالا. فقال له الأستاذ: أنا لا أملك حق الإجابة على سؤال كهذا؛ لأني لم أكن قط كلبا لأخبر بخبرة مباشرة ماذا في مقدور الكلب، وماذا يجاوز ذلك المقدور!
من هنا تعلمت كيف أرد الأفكار إلى أصولها، محاولا ألا أنخدع فأظن أصولا ما ليس بأصول، بل هي فروع تفرعت عن أصل لها، ولن تفهم حق الفهم إلا إذا تعقبناها إلى منابعها الأولى، التي لا يكون وراءها وراء، فأيا ما كانت المشكلة التي بين أيدينا، ويراد لها أن تحل، سواء أكانت مشكلة في الاقتصاد كهذا التضخم النقدي الذي تنوء تحته أثقال بما أدى إليه من تصاعد في الأسعار بسرعة تفوق الخيال، أم كانت مشكلة تعليمية كالتي أشكلت علينا، وجثمت على مدارسنا وجامعاتنا، وأخذت تبيض هناك وتفرخ حتى بلغت حدا يجاوز كل معقول، تجلى في صورة من الغش في لجان الامتحان، غشا علنيا تذاع فيه الإجابات على التلاميذ بمكبرات الصوت، «أو هكذا قرأنا في الصحف» وغير ذلك من صور لم نشهد لها مثيلا في كل ما عرفناه فيما مضى في التعليم، أم غير هذه وتلك من مشكلاتنا الكبرى، أقول إنه أيا ما كانت المشكلة التي بين أيدينا، فلا بد من فهمها أولا فهما صحيحا، كيف نشأت؟ وكيف تفرعت حتى أصبحت على ما أصبحت عليه؟ وبمثل هذا التفصيل، يمكن لأبصارنا أن تقع على موضع العلة، وأما أن ثمة علة خطيرة فبرهانه هو أن كل فرد منا «يحسها»، وتأمل هذه العبارة جيدا، وهي أننا ما دمنا «نحس» القلق من هذه الناحية أو تلك، إذن فلا بد أن يكون هنالك خطأ ما قد أثار فينا هذا القلق، وانظر إلى نفسك وما قد تتعرض له من ضروب المرض، إنك لا تشعر بوجود العضو السليم، فلا تشعر أن لك عينا ترى، ما دامت تؤدي وظيفتها على صورة طبيعية، فإذا ما أصابها شيء، أحسست عندئذ بوجودها، وهكذا قل في كل جزء من أجزاء البدن: القلب، الرئتان، المعدة، إلخ.
إذا ما سارت في صحة وسلامة، لم تشعر بوجودها، فالشعور بوجود عضو ما، دليل على أنه قد تعرض لعلة، وهكذا الحال في الحياة العامة، يكون الشعور عند الفرد من الجماعة بثقل هذا أو ذاك من مقومات العيش، متناسبا مع الخطأ الذي أصابه. وهكذا تخف الحياة على الناس أو تثقل، بمقدار متناسب مع صحة تلك الحياة أو مرضها.
ولقد ثقلت الحياة علينا في كثير من نواحيها، فأول خطوة سديدة في طريقنا إلى مخرج، هو أن نسأل: أين موضع «الخطأ»؟ لأن خطأ ما لا بد أن يكون قد وقع، وما إن وجهت سؤالا كهذا إلى نفسي، بالنسبة إلى مجال التعليم ومجال الثقافة، وهما - كما نعلم - مجالان متصلان منفصلان، على نحو كثيرا ما يتعذر معه التحديد: أين ينتهي أحدهما ليبدأ الآخر، أقول إني ما كدت أطرح سؤالا كهذا على نفسي، حتى قدمت إلى ذاكرتي - عن غير دعوة مني إليها بذلك - عدة فصول كنت طالعتها مجموعة في كتاب، لمجموعة من رجال الفكر في الغرب، يعالجون فيها، كل من وجهة نظره، عوارض الحياة في هذا العصر ، وكيف انحرفت بالإنسان عن حياة طبيعية ميسرة؟ فكان كل منهم يبحث عن موضع العلة، أو عن مواضع العلل إذا رآها متعددة، وهذا مساو لقولنا إن كلا منهم قد أخذ يبحث عن «الخطأ» أو «الأخطاء»، التي أحدثت ما أحدثته من قلق في النفوس.
صفحة غير معروفة