كان ذلك - إذن - أول المزالق في حياتنا الفكرية، وثانيها هو الخلط بين فكرة الأساس، والفكرة المستدلة منها، فنحسبهما شيئا واحدا، ونحكم عليهما بحكم واحد. ولأضرب لذلك مثلا له أهميته في تاريخ الفكر، فليس هو بالأمر النادر، حتى بين العلماء أن يصفوا حواس الإنسان بأنها قد «تخدع» صاحبها، فترى الشمس وتحسها في حجم الدينار، فتظن أنها بحجم الجسم الصغير به، وهذا المثل ساقه أبو حامد الغزالي مع غيره في كتابه «المنقذ من الضلال»، ليستشهد به على «خداع الحواس»، وحقيقة الأمر هي أن العين ترى ما تراه ولا خداع، وإنما وقع خطأ عقلي في عملية «الاستدلال»؛ إذ لو استقامت العملية الاستدلالية، لحسبت المسافة بين الشمس والأرض، وبناء على قوانين «المنظور» نتعرف من القرص الشمسي الصغير الذي تراه العين، كم يكون حجمه الطبيعي في الواقع، فها هنا حقيقتان: حقيقة أبصرناها بالعين، وحقيقة أخرى استنبطناها بالعقل من الحقيقة الأولى، فإذا ظن ظان أن الشمس في حجمها الطبيعي هي كما رأتها العين، لم يكن الخطأ في ذلك خطأ العين، ولكنه خطأ في العملية الاستدلالية. وقد نفيد كثيرا من هذا المثل على الخلط بين فكرة الأصل وفكرة مستدلة منها، وهو ما قد يخطئ فيه الإنسان عند استدلاله؛ فالإسلام كتابه واحد، لكن كان لكل مذهب من مذاهب المسلمين طريقة في استدلال مبادئه المذهبية من الكتاب، ومرة أخرى نذكر القارئ بأن خطأ كهذا، لا يقتصر على نفسه، بل كثيرا ما يجوز حدود نفسه، ليصبح تزمتا وتعصبا من اتباع مذهب معين ضد أصحاب المذاهب الأخرى.
وأضيف إلى المنزلقين المذكورين منزلقا ثالثا، ثم أكتفي؛ فالعقل المدرب على دقة الفكر ووضوحه، يحرص أشد الحرص على أنه إذا ما استخرج نتيجة مضمونة من فكرة مطروحة، وجب أن تكون النتيجة المتولدة كلها مضمرة في جوف الفكرة التي استولدناها، لكننا نلاحظ في حالات كثيرة من حياتنا الثقافية، كيف نستنتج شيئا لم يكن مضمرا في الأساس الذي نستنتج منه، ولو كانت تلك الحالات هامشية كلها، لأهملناها، لكنها قد لا تكون كذلك، فمثلا تعرض على الناس حقيقة علمية عن النبات أو الحيوان أو غيرها من خلق الله سبحانه، وبعد أن تبين كم تنطوي تلك الحقيقة العلمية على مذهلات، تستدل من ذلك ما ليس لك حق في استدلاله، كأن تستدل شيئا يتصل بالإيمان الديني؛ لأن في ذلك خلطا أعتقد أنه يضر أكثر مما ينفع؛ لأن الجانب الإيماني تظل قوته - حتى لو بطلت الحقيقة العلمية التي تقدم لتكون سندا له وخطورة مثل هذا الخلط - هي في أنها قد تجاوز حدود الموضوع المعروض، لتكون «عادة» عقلية، وعندئذ يسهل في دنيا السياسة مثلا، أن تستدل للجمهور من أي شيء فيصدقوك.
فيا صاحبي، إنه لضباب أكثف مما تظن، يكتنف حياتنا الفكرية، فهلا دللتني على ما يزيح عنا هذا الضباب لعلنا نرى؟
وقفة عملية هادئة
كنت ذات عام قريب، قد جعلت «فلسفة اللغة» موضوعا لمحاضراتي مع طلاب الدراسة العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ولم يكن ذلك اختيارا جزافا، بل هو - كما رأيته عامئذ - اختيار يسد حاجتين: إحداهما قومية محلية، والأخرى عالمية وعامة، فأما الحاجة الأولى، فهي ما أراه، وما لا بد أن يكون قد رآه معي كثيرون، من تخبط في حياتنا الثقافية تجاه اللغة؛ إذ تستطيع أن تقول عن الجيل الحاضر، في الوطن العربي كله طولا وعرضا، إنه يجهل لغته العربية جهلا تتفاوت درجاته، لكنه مع هذا التفاوت يظل الجهل باللغة صفة تصف أبناء الجيل الحاضر على وجه التعميم الذي لا يمنع أن يشذ فيه الشواذ، ولو أن الجاهلين بلغتهم كانوا على وعي بجهلهم، لهان الخطب؛ لأننا كنا نقول عندئذ: إنها غلطة في نظم التعليم نتداركها بالعلاج، فيصلح أمرنا ولو بعد حين، لكن هؤلاء الجاهلين بلغتهم، قد حولوا جهلهم ليكون «مذهبا» في الحياة الثقافية، وما ينبغي أن تكون عليه؛ إذ هم قد أوهموا أنفسهم ليوهمونا، بأن لغة النواتج الثقافية، من أدب - شعرا ونثرا - ومن توعية بالمعلومات الخاصة والعامة، يجب أن تخاطب «الشعب» بلغته التي يتداولها ويفهمها، وهي اللغة «العامية» أو اللغة «الدارجة» (وقد لحظت أخيرا أن منهم من يريد التفرقة بين «العامية» و«الدارجة»)؛ ومن هنا نظم بعض الشعراء، حتى من أصحاب الموهبة التي لا يجادل فيها مجادل، نظموا شعرهم بالعامية المحلية، لا استحياء من جهل باللغة العربية، بل زهوا بما يضعونه، لكونه في زعمهم «تجديدا» من ناحية، و«وطنية» من ناحية أخرى، فإذا فتح الله على نفر منهم ليكتبوا أدبهم - شعرا ونثرا - بلغة تشبه العربية الصحيحة، وقعوا في حمأة من خطأ وركاكة، مما كان يمكن في عصر آخر أن «تشيب له الولدان»، لكن «الولدان» في هذا الجيل، لا تشيب لهم شعرة واحدة، حتى لو أغرقتهم في بحر من ركاكة وخطأ؛ لأن سواد الليل في أعينهم قد أصبح أشد بياضا من بياض النهار، لكثرة ما ألفوه، ابتداء من المدرسة الأولية، ومرورا بالجامعات، ثم لا انتهاء بعد ذلك في سلم الهبوط.
تلك - الآن - هي الناحية القومية المحلية، التي دعتني إلى اختياري لفلسفة اللغة موضوعا لمحاضراتي في ذلك العام، وأما الناحية الثانية، التي قلت إنها عامة وعالمية، فهي أن البحث في «فلسفة اللغة» قد بات متجها للعاملين في الدراسة الفلسفية، لا تخطئه عين، وإن شئت فانظر إلى الدوريات الفلسفية في أعلى مستوياتها، لترى ما الذي يشغل اهتمام هؤلاء الدارسين الآن، قبل أن يشغلهم أي موضوع آخر؟ ولكي أكون بمأمن من الزلل، يحسن بي أن أخصص القول، فأجعل الإشارة متجهة بصفة خاصة إلى الدوريات - وكثيرا جدا من المؤلفات - التي تصدر بالإنجليزية، فتلك هي التي أطالعها وأقيم عليها أحكامي التي أسلفتها؛ ففلسفة اللغة في تلك الدوريات والمؤلفات، هي اليوم في مكان الصدارة من اهتمامات الدارسين في ميادين الدراسة الفلسفية، فإذا كنت قد اخترت فلسفة اللغة موضوعا لمحاضراتي طوال عام دراسي كامل؛ فذلك لأني قد أردت فيما أردته، أن أضع طلابنا في مناخ عصرهم.
لكنني قبل أن أمضي فيما أعتزم المضي فيه من حديثي هذا، مطالب بأن أوضح للقارئ ما الذي نعنيه من قولنا «فلسفة اللغة»، أو قولنا «فلسفة العلم» أو قولنا «فلسفة الفن»، أو فلسفة أي فرع من فروع المعرفة؟ وبرغم أني قد أوضحت ذلك في أكثر من مناسبة، فالخير كل الخير أن أعيد التوضيح مرة بعد مرة، لعلي أوفق آخر الأمر في أن أمحو من الأذهان تلك الأوهام التي علقت بها عن الفكر الفلسفي، وما يؤديه في أي بنيان ثقافي ظفر بشيء من السواء والاكتمال، وفي ذلك أقول - في إيجاز شديد - إن الإنسان في حياته العادية تصادفه ظواهر يلتزم العيش فيها وبها ومعها؛ لأنه لا سبيل أمامه إلا أن يفعل ذلك، فهنالك ظاهرة المطر في فصل الشتاء (في مصر)، وظاهرة الخماسين في فصل الربيع، وهنالك تاريخ وراء ظهره ، وهنالك نظام أسري معين، وهنالك لغة معينة يتعلمها لتكون أداة التواصل مع سائر المواطنين، إلى آخر ما هنالك من أدوات العيش ووسائطه، وليس الفرد العادي مطالبا بشيء تجاه تلك الظواهر كلها، إلا أن يعيشها ويعيش بها ومعها، لكن رجل العلم - في أي فرع من فروعه - فوق كونه يعيش مع سائر الناس فيما يعيشون فيه وبه ومعه من أوضاع طبيعية أو اجتماعية، يرى لزاما عليه أن يبحث في كل وضع من تلك الأوضاع، عن القانون أو القوانين، التي على مقتضاها تفعل تلك الأمور فعلها وتسير سيرها، فما الذي يحدث في جو السماء فينزل المطر؟ وما الذي يقع في حركة الهواء فتهب الخماسين؟ وهكذا، وبهذا تتكون عند الإنسان حصيلته «العلمية»، على أن تلك الحصيلة العلمية ليست هي آخر المطاف، كلا، ولن تكون؛ إذ لا بد أن يظهر في هؤلاء العلماء أنفسهم - أو من هم على شاكلتهم - من يقلقه ألا تكتمل المسيرة حتى نهايتها؛ لأننا إذا وقفنا عند المرحلتين السابقتين، وهما أن نعيش الظواهر عيشة عملية، ثم أن ينفرد رجال العلم بعد ذلك باستخراج قوانينها العلمية، أقول إننا إذا وقفنا عند هذا الحد، أخذنا القلق الفعلي لما في ذلك من نقص، وكأننا نرى كيانا قد بتر رأسه، فيلح علينا السؤال: أين الرأس الضائع من هذا الكيان؟ لماذا؟ لأن المرحلة الثانية، التي هي المرحلة «العلمية»، من طبيعتها أن تقيم نفسها على أساس ما، تأخذه مأخذ التسليم، ولا تطالب نفسها بأن تسأل: ما الذي كان قبل هذا الأساس الذي يقام عليه البناء العلمي؟ فعالم الرياضة يبني علم الحساب على أساس «العدد»، ثم يتناول ذلك العدد جمعا وطرحا وضربا وقسمة، وما بعد ذلك من مراحل تصعد به إلى الرياضة العليا، وعالم الضوء يجعل ظاهرة الضوء نقطة البدء، وعالم الاجتماع يتخذ من النواة الأسرية خطوته الأولى وهكذا، فلا عالم الرياضة قد سأل نفسه عن حقيقة «العدد»، كيف تولدت في عقل الإنسان، ولا عالم الضوء يهمه أن يسأل: وكيف نشأ في العالم ضوء ؟ ولا عالم الاجتماع يعنيه أن يغوص إلى ما قبل التقاء إنسان بإنسان فينشأ منهما نواة اجتماع، فإذا فعل أي من هؤلاء ذلك، أعني إذا أغراه حب الاستطلاع أن يبحث عما وراء نقطة البدء التي بدأ منها خطواته العلمية، كان في بحثه عن ذلك «الماوراء» فيلسوفا للعلم الذي قد اختص فيه.
فمرحلة «العلم» - إذن - بالنسبة لأي ظاهرة طبيعية أو إنسانية، هي استخراج قوانينها؛ فإذا ظهر من حفزه القلق والتطلع، إلى الحفر تحت تلك القوانين ليقع على منابتها وجذورها - كان فيلسوفا في مجاله، وكان عمله «فلسفة»، حتى إذا ما جاد زمان الناس بنابغة مقتدر، بحيث استطاع ألا يقف في العملية الفلسفية عند مجال علمي واحد، بل أن يكون له تلك النظرة الشاملة، والأفق الواسع، فيضم شتى مجالات المعرفة في قبضة واحدة من يديه، ويكشف عن الجذر الواحد الذي انبثقت منه تلك المجالات العلمية والمعرفية والفنية كلها - كان ذلك الموهوب واحدا من جماعة الفلاسفة الكبار، الذين لا تجود بهم الحياة إلا حينا طويلا بعد حين طويل.
واللغة ظاهرة يعيشها الإنسان - كل إنسان، في أي زمان ظهر، وفي أي مكان وقع - وربما قد مضت من تاريخ البشر دهور بعد دهور، وهو يمارس اللغة مع سائر أعضاء مجتمعه، دون أن يظهر بين الناس من يبحث في لغته التي يمارسها، عن قواعدها التي على أساسها تجيء الجملة المعينة مقبولة أو مرفوضة، عند أصحاب اللغة التي منها جاءت تلك الجملة، ثم حان للناس حين شهدوا فيه مثل ذلك العالم الذي يستخرج من لغته قوانينها وقواعدها، بل وظهر كذلك العالم الذي يجمع مفردات اللغة في معجم واحد، بعد أن كانت متفرقة على الشفاه كلاما، وعلى الأوراق أو ما يشبه الأوراق كتابة، وإننا جميعا لنعلم عن لغتنا العربية أن أمثال هؤلاء العلماء، بالنسبة إلى اللغة العربية، قد ظهروا لأول مرة، بعد ظهور الإسلام بوقت قصير، لم يزد على قرن واحد، وكان الحافز إلى البحث العلمي في اللغة العربية، تمهيد السبيل نحو أن يفهم المسلم كتاب الله حق الفهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
إلى هنا وقد نشأت للغة العربية «علوم»، تستخرج من تاريخ استخدامها الفعلي قوانينها وقواعدها، في النحو والصرف والاشتقاق، وهي قوانين وقواعد - كما هي الحال في أي علم طبيعي آخر حيال الظاهرة المحددة التي يبحث فيها - تستخلص من الظاهرة المبحوثة كما تقع، وليست - بالبداهة - مفروضة على الظاهرة من سلطان خارج حدودها، والحق أن ازدواجية المعنى في كلمة «قانون» أو في كلمة «قاعدة»، كثيرا جدا ما يحدث شيئا من الغموض في أذهان الدارسين، فبينما نجد في حياتنا الاجتماعية قوانين وقواعد، تسنها الدولة لأبنائها بالطرق الشرعية، فتكون بمثابة «أوامر» أو «نواه» تأمر الناس بفعل هذا وتنهاهم عن فعل ذاك، فإن «القانون» العلمي لظاهرة من الظواهر الطبيعية، لا أمر فيه ولا نهي، إنما هو صورة نظرية مستخلصة من الظاهرة نفسها وطرائق فعلها، وسيكون لهذه النقطة الهامة شأن فيما سوف نورده خلال هذا الحديث.
صفحة غير معروفة