عرف ألفريد نورث وايتهيد الدين بأنه «ما يفعله المرء في عزلته.» لكن الدين أكثر من مجرد تجربة شخصية داخلية (في ضوء إطارنا الحالي، يمكننا أن نرى أن هذا التعريف يركز كثيرا على البعد التجريبي). وفي العادة يشعر أتباع الدين بأنهم جزء من جماعة، وفي الغالب يرون أن لذلك أهمية سياسية ودينية أيضا، كما هي الحال في مفهوم «العالم المسيحي» في العصور الوسطى. وهذه النظرة واضحة جلية في الإسلام أيضا، الذي يرى أن الشريعة تتحكم في كل مناحي الحياة العامة والخاصة.
النواة الاجتماعية للبوذية هي جماعة الرهبان والراهبات («سانجا») التي أسسها بوذا. وعلى الرغم من أن الجماعة البوذية هي المؤسسة الاجتماعية المحورية، فإن البوذية ليست دينا مقتصرا على الرهبان؛ فالمصادر القديمة تقدم تصنيفا اجتماعيا للبوذية يفيد بأنها: «الجماعة الرباعية» التي تتكون من الرهبان والراهبات والتلاميذ المتدينين من عوام البوذيين من الرجال والنساء (ويطلق عليهم «أباساكا/أباسيكا»). وما يلفت النظر في هذا الصدد هو الشمولية والاعتماد المتبادل بين الأفراد، سواء بين الذكور والإناث أم بين العوام والرهبان. وعلى الرغم من وجود فارق واضح بين حياة الرهبنة والحياة العلمانية في كثير من مناحي العالم البوذي، فلقد وجدت محاولات لتشويش أو إزالة الحواجز بين الحياتين، وقد لاقى هذا الميل أكبر قدر من النجاح في اليابان.
يمكن أن يتخذ النظام الاجتماعي لأحد الأديان أشكالا عدة، بداية من مجموعات صغيرة يقودها معلمون وصولا إلى مؤسسات ذات هيكل هرمي التسلسل يضم ملايين من الأتباع. وتوجد في البوذية عدة تنويعات تنظيمية. وفي الأساس كان بوذا معلما متجولا جذب الأتباع من خلال جاذبية شخصيته. ومع تزايد أعداد هؤلاء الأتباع تكونت بنية مؤسسية أساسية في شكل جماعة من الرهبان لها قواعد وضوابط. ورغم ذلك، فقد أعلن بوذا أنه لا يعتبر نفسه قائد هذه الجماعة، ورفض تعيين خليفة عند وفاته، وبدلا من ذلك، شجع أتباعه على العيش وفقا لتعاليمه (الدارما) ووفقا لحكم الرهبنة، وأن يكونوا «مصابيح (أو جزرا) بعضهم لبعض» (كتاب ديجا). وعلى الرغم من أن بلدانا عديدة لديها سلطات دينية، فإن البوذية لم يكن لديها قط زعيم منفرد، ولم يكن لديها منصب مركزي يماثل منصب البابا في المسيحية. ونظرا لغياب السلطة المركزية، كلما نشبت الخلافات على أمور العقيدة أو الممارسة، مالت البوذية إلى الانقسام بسهولة. وتتحدث سجلات البوذية عن ثماني عشرة طائفة وجدت خلال قرنين بعد وفاة بوذا، وقد ظهر عدد أكبر من تلك المذاهب منذ ذلك الحين.
الطوائف والمذاهب البوذية
على مدار القرون تكونت العديد من الطوائف والمذاهب البوذية. ويوجد فرق كبير بين البوذية المحافظة الموجودة في جنوب آسيا في بلدان مثل سريلانكا وبورما وتايلاند، وبين مذاهب الشمال المجددة في العقيدة الموجودة في التبت وآسيا الوسطى والصين واليابان. في جنوب آسيا يشيع مذهب التيرافادا، ويعنى هذا الاسم «التعاليم الملزمة» أو «التعاليم الأصلية»، على الرغم من أن الترجمة الشائعة له هي «عقيدة الأقدمين». ويعتبر هذا المذهب نفسه حاضنا للتعاليم القديمة الأصلية التي تعود إلى بوذا نفسه. أما مذاهب شمال آسيا فتنتمي إلى حركة تعرف باسم ماهايانا، وتعني «العربة الكبرى». ويعرف الأفراد البوذيون أنفسهم باعتبارهم تابعين لإحدى هاتين «العائلتين»، على النحو الذي يعرف به المسلمون أنفسهم باعتبارهم إما سنة وإما شيعة، أو على النحو الذي يعرف به مسيحيو الغرب أنفسهم باعتبارهم إما بروتستانتيين وإما كاثوليكيين.
وفيما يتعلق بالنظام الاجتماعي، يبدو أن بوذا قد فضل النظام الجمهوري من النوع المستخدم بين أتباعه. وشجع الرهبان على عقد «اجتماعات كاملة ومتكررة» (كتاب ديجا) واتخاذ القرارات بالإجماع. ويختلف النظام الاجتماعي في البوذية من ثقافة إلى أخرى، وقد أظهرت البوذية قدرا عاليا من المرونة في التكيف مع تقاليد الثقافات الأصلية التي احتكت بها. ومع انتشار البوذية في الغرب، فإن من المتوقع أن تتطور الأشكال الديمقراطية للنظام الاجتماعي؛ لأن الجماعات البوذية تطور نظما اجتماعية تناسب احتياجاتها.
البعد المادي
البعد السابع والأخير مشتق إلى حد كبير من البعد الاجتماعي؛ فالبعد المادي يشمل الأشياء التي تتجسد فيها روح الدين، مثل: الكنائس والمعابد والأعمال الفنية والتماثيل والمواقع المباركة والأماكن المقدسة مثل أماكن الحج. وفي الهند، كثير من الأماكن المرتبطة بحياة بوذا أصبح مراكز حج مهمة، مثل مكان مولده ومكان تنويره، والحديقة التي ألقى فيها أولى خطبه. وفي أماكن أخرى في آسيا توجد مواقع بوذية عديدة ذات أهمية أثرية وتاريخية وأسطورية. وتشمل هذه الأماكن المنحوتات الصخرية العملاقة، مثل تلك الموجودة في بولوناروا في سريلانكا، وباميان في أفغانستان، ويون كانج في الصين. أما الأثر الأكثر شيوعا وتذكيرا بالبوذية فهو «ستوبا» واسع الانتشار، وهو أثر على شكل قبة، لكنه تحت تأثير أساليب العمارة في شرق آسيا تحول إلى مبنى الباجودا. وتحتل النصوص من الآثار الأخرى أهمية بارزة في البوذية؛ فالنصوص الدينية تعامل بقدر هائل من الاحترام نظرا لأنها تضم تعاليم بوذا وتجسد حكمته. ويعتبر نسخ أو إلقاء أو حفظ هذه النصوص نشاطا دينيا، وكذلك عملية ترجمة تلك النصوص إلى لغات أخرى.
ملخص
يمكننا أن نرى مما سبق أن الدين عبارة عن ظاهرة معقدة لا يمكن أن يوفيها حقها تعريف على غرار تلك التعريفات الموجودة في القواميس، ولا سيما عندما يكون ذلك التعريف نابعا تماما من التجربة الدينية للغرب. رغم ذلك، وبمجرد أن نبدأ في التفكير في الدين باعتباره كيانا له أبعاد متعددة، فإنه يصبح من السهل رؤية كيف أن البوذية - على الرغم من سماتها الغريبة والمميزة - تأخذ مكانها وسط عائلة الأديان العالمية. وبالعودة إلى سؤالنا الأصلي، يمكننا أيضا أن نرى لماذا كان من غير المناسب تعريف البوذية على أنها مجرد فلسفة أو أسلوب حياة أو نظام أخلاقي؛ فهي تضم كل هذه الأمور، وفي بعض الأحيان يبدو أنها تقدم نفسها بإحدى هذه الطرق. ومع ذلك، يعتمد الأمر إلى حد كبير على المنظور الذي ترى منه البوذية وعلى مقدار تجاهل بقية أبعادها الأخرى. فإذا أراد أحد الأشخاص رؤية البوذية باعتبارها فلسفة عقلانية خالية من الخرافات الدينية، فعندها - من خلال التركيز على البعد العقائدي والفلسفي - يمكن فهمها بهذه الطريقة. وإذا أراد شخص أن يراها في جوهرها سعيا للتجربة الصوفية - من خلال جعل البعد التجريبي بعدا محوريا لها - يصبح هذا ممكنا. وأخيرا، الشخص الذي يريد رؤية البوذية باعتبارها مجموعة من القيم الأخلاقية الإنسانية سوف يجد أيضا مبررا لهذه النظرة من خلال إعطاء الأولوية للبعد الأخلاقي والتشريعي.
صفحة غير معروفة