ورغم ذلك، وبوجه عام، لا يوجد لدى المصادر البوذية التقليدية سوى القليل كي تقوله حول المسائل التي تعتبر اليوم قضايا متعلقة بحقوق الإنسان. وفي ظل غياب مفهوم واضح للحقوق، وبالطبع هذا ليس من غير المتوقع ، لا بد للبوذية من تقديم فكرة عن كيفية تأصيل فكرة حقوق الإنسان في المعتقد البوذي. كيف يمكن للبوذية فعل ذلك؟ من الممكن أن تبدأ بالإشارة إلى أن حقوق الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة الكرامة الإنسانية. وفي واقع الأمر، يشتق كثير من مواثيق حقوق الإنسان على نحو واضح فكرة الحقوق من فكرة الكرامة الإنسانية. وفي كثير من الأديان يقال إن الكرامة الإنسانية نابعة من حقيقة أن البشر خلقوا على صورة الإله. وبطبيعة الحال، لا تقدم البوذية مثل هذا الزعم. وهذا يصعب من رؤية المصدر المحتمل للكرامة الإنسانية في البوذية. وإذا كان من غير الممكن البحث عن الكرامة الإنسانية من منطلق ديني، فمن الممكن البحث عنها من المنطلق الإنساني. وفي البوذية يبدو أن الكرامة الإنسانية تنبع من قدرة البشر على اكتساب التنوير، كما هو واضح من الشخصية التاريخية لبوذا والقديسين في التراث البوذي. إن بوذا احتفاء حي بالقدرة الإنسانية، وفي المعرفة العميقة والشفقة اللتين يمثلهما - وهذه صفات يمكن لكل البشر محاكاتها - يمكن أن توجد الكرامة الإنسانية. تعلمنا البوذية أن جميعنا بددة محتملون (بعض مذاهب الماهايانا تعبر عن ذلك بقول إن كل البشر يمتلكون «طبيعة بوذا» أو بذرة التنوير). وبموجب هذه القدرة المحتملة على اكتساب التنوير التي يتشاركها البشر، فإن كل الأفراد يستحقون الاحترام؛ ولذلك يقتضي العدل وجوب حماية حقوق كل فرد.
الحرب والإرهاب
كما لاحظنا، فإن التعاليم البوذية تناهض العنف بشدة وتعتبره نتيجة لحالات ذهنية مرتبطة بالطمع («راجا»)، والكراهية («دوسا»)، والوهم («موها»). وتعتبر أن العدوان يذكيه الاعتقاد الخاطئ في وجود الذات («أتمان») والرغبة في حماية تلك الذات من الضرر. وهذا الإحساس القوي بالذات وما يرتبط به من أمور (مثل: «ممتلكاتي»، «بلدي»، «عرقي») يولد إحساسا قويا بالانقسام يؤدي إلى الشك والكراهية تجاه كل ما هو «غريب» أو «آخر». إن هدف التعاليم البوذية هو إذابة الإحساس بالذات، ومعه الخوف والكراهية اللذان يسببان نشوب الصراع.
ويعد الصبر («كهانتي») من الفضائل المهمة في هذا الصدد؛ نظرا لأن انعدام التسامح وانعدام الحلم هما غالبا سبب النزاعات العنيفة . ويوجد الكثير من القصص البوذية التي تضرب مثلا على ممارسة الصبر، مثل قصة «كهانتيفادي جاتاكا». وفي هذه القصة يظهر «كهانتيفادي»، أحد النساك، الجلد عندما لم يغضب حتى بعد أن قطعت أطرافه واحدا تلو الآخر بناء على أوامر أحد الملوك. وتعتمد ممارسة الصبر على رباطة الجأش («أوبيكها») أو الرزانة تجاه كل الناس، سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء. ومن الواضح أن الأشخاص الذين يمثلون أعداءنا حاليا كانوا على نحو شبه أكيد أصدقاءنا في حياة أخرى، فلا أحد سيظل عدوا للأبد.
عندما تتحدث المصادر القديمة عن الحرب فإنها تدينها تماما دون استثناء؛ لأن الحرب تتضمن القتل، والقتل يعد خرقا للوصية الأولى. ولا يمثل سبب الحرب قيمة كبيرة سواء أكانت الحرب تخاض لسبب هجومي أم دفاعي؛ لأن خسارة الأرواح ستحدث نتيجة لها. وفي تناقض واضح مع وجهة نظر الإسلام حول مصير المحاربين الذين يموتون في حرب مقدسة، يعبر بوذا عن وجهة نظره في «سوترا نيباتا» (كتاب ساميوتا نيكايا) فيقول إن الجنود الذين يموتون في المعركة لا يدخلون إلى جنة خاصة، بل يدخلون إلى جحيم خاص؛ إذ في لحظة موتهم كانت عقولهم مصممة على القتل. وتؤكد بعض المصادر أنه حتى القتل دفاعا عن النفس أو دفاعا عن الأسرة أو الأصدقاء يعد خطأ، وتمدح في العموم توجه عدم المقاومة عند التعرض للعنف. ويروي التعليق على مجموعة أقوال «دامابادا» كيف أن أقارب بوذا، شعب ساكيا، عندما تعرضوا للهجوم في إحدى المرات، رضوا بأن يقتلوا بدلا من أن يخرقوا الوصية الأولى. وتوجد أمثلة أخرى في حكايات «جاتاكا» وغيرها تتحدث عن أمراء وملوك تنازلوا عن عروشهم بدلا من اللجوء إلى العنف للدفاع عن ممالكهم.
وفي أغلب الأحيان، يشير البوذيون إلى الملك أشوكا باعتباره نموذجا يوضح كيف يجب أن يحكم الحكام من خلال وسائل سلمية. وكما هو موضح في الفصل السادس، فقد حكم أشوكا إمبراطورية كبيرة في الهند في القرن الثالث الميلادي. وبعد ثماني سنوات من تتويجه أمر جيوشه بمهاجمة كالينجا، وهي منطقة على الساحل الشرقي نجحت في مقاومته. كانت الحملة دموية وكانت الخسائر في الأرواح كبيرة. وفي أحد الإعلانات العديدة (الإعلان الصخري الرابع عشر) المحفورة على الصخور والأعمدة في كل أنحاء المملكة، قال أشوكا إنه في حملة كالينجا هجر 150 ألف شخص، وقتل 100 ألف في المعركة، ومات عدد أكبر من ذلك في الاضطرابات التي صاحبت الحملة. وتحدث عن ضيقه من معاناة أناس عاديين مهذبين («براهمة، ونساك، وأتباع أديان مختلفة») أصيبوا أو قتلوا أو افترقوا عن أحبائهم. لقد أخافته خسارة الأرواح في الحرب وأدت إلى تغير كامل في قلبه؛ ونتيجة لذلك تخلى عن استخدام الحملات العسكرية، وقرر الحكم منذ ذلك الوقت بالدارما، وقال: «إن الغزو بالدارما أفضل أنواع الغزو.» ومن الواضح أن أشوكا تمنى محاكاة التصور الكلاسيكي المتمثل في تشاكرافارتين، الملك البوذي الصالح. ورغم ذلك، فمن الملاحظ أنه على الرغم من أن تشاكرافارتين، تلك الشخصية الأسطورية، يصور على أنه يغزو سلميا من خلال قوة الدارما، فإنه رغم ذلك يحتفظ بجيشه ويصطحبه معه في كل أسفاره إلى الممالك المجاورة. في ضوء هذه الأمور الغريبة، راود بعض الباحثين الشك حول كون موقف البوذية من استخدام القوة محددا كما بدا في البداية أم لا. وهذه التحفظات عززتها المصادر اللاحقة. وقد وضع أحد مصادر الماهايانا القديمة، الذي يحمل اسم «ساتياكاباريفارتا»، والذي يعود على الأرجح إلى القرن الثاني الميلادي، نوعا أوليا من فلسفة الحرب العادلة التي تقول إنه يمكن اللجوء إلى الحرب في حالة فشل الوسائل الأخرى، بشرط ضرورة أن يجرب الملوك في البداية الصداقة، ثم المساعدة، ثم الترهيب قبل اللجوء إلى الحرب. ويستخدم النص مفاهيم من بوذية الماهايانا مثل الشفقة والوسائل الماهرة لتبرير الحرب والتعذيب والعقوبات القاسية دعما لحملات الغزو من أجل نشر نفوذ البوذية. إن هذه الفكرة الجديدة المتمثلة في أن العنف السياسي يمكن كذلك التفكير في استخدامه تأخذنا بعيدا عن بوذا المسالم الذي يصوره لنا قانون بالي بأنه لم يغفر مطلقا استخدام العنف تحت أي ظروف. ونص «كالاتشاكرا تانترا»، وهو نص مفضل للدالاي لاما الحالي، يحتوي على فقرات مثيرة للجدل تتنبأ باندلاع «حرب مقدسة» بين البوذيين و«البربريين» (بالسنسكريتية: «ملكشا») وتتوقع قدوم تشاكرافارتين الذي سوف يهزم البربريين في المعركة. ويحدد بعض الباحثين هوية هؤلاء «البربريين» قائلين إنهم القوات المسلمة التي هاجمت الأديرة البوذية في شمال غرب الهند في أواخر العصور الوسطى، بينما يفسر آخرون هذه الفقرات تفسيرا نفسيا ويقولون إنها تصف الصراع الداخلي الذي يشنه ممارسو الدين ضد قوات الظلام المتمثلة في الكراهية والغضب والعدوان.
وأيا كانت طريقة تفسير النصوص، فإن التاريخ يظهر أن كثيرا من الحكام البوذيين قد فشلوا في اتباع مثال أشوكا المسالم. وفي التاريخ القديم لسريلانكا، نشب العديد من المعارك بين السنهاليين والغزاة التاميل القادمين من الهند. ويعتبر الملك السنهالي دوتهاجاماني (القرن الأول الميلادي) بطلا قوميا لأنه هزم الجنرال التاميلي إلارا، وذكرى هذا الانتصار مخلدة في السجل السنهالي «ماهافانسا»، وهو سجل تاريخي للقرنين الخامس والسادس الميلاديين يروي تاريخ جزيرة سريلانكا. ويصور السجل الصراع بأنه نوع من «الحرب المقدسة» بين البوذيين والهندوس ويمجد النصر البوذي. ويروي كيف شعر دوتهاجاماني بالندم بعد الانتصار (تماما مثل أشوكا)، لكن طمأنه الرهبان المتنورون («الآرهات») بأنه ما دام يدافع عن «الدارما» فإنه لم يفعل شيئا مخالفا للوصايا البوذية. وفي العصور المعاصرة تحدث رهبان بارزون، مثل الراحل والبولا راهولا، مستحسنين «الوطنية الدينية»، ووصفوا حملة دوتهاجاماني بأنها «حرب مقدسة». وأثناء الحرب الأهلية الأخيرة في سريلانكا، أقام الرهبان البوذيون بانتظام طقوسا دينية من أجل الجيش، واليوم يوجد رهبان بوذيون يخدمون في القوات المسلحة التايلاندية والكورية والأمريكية.
في الفترة المعاصرة، كثيرا ما شن الرهبان البوذيون حملات هجومية صريحة ضد خصومهم، وطالبوا بمحوهم باستخدام القوة. وفي سبعينيات القرن العشرين نادى الراهب التايلاندي كيتيفودو، المعارض القوي للشيوعية، في تصريحات علنية بإبادة الشيوعيين، وزعم أن هذا واجب ديني وضروري لحماية الأمة التايلاندية، ومملكتها، ودينها القومي (البوذية). وحسب وجهة نظره، فإن قتل 5 آلاف شيوعي ثمن يستحق دفعه لضمان سلامة 42 مليون تايلاندي.
لم يكن جنوب آسيا المنطقة الوحيدة التي نشبت فيها الحروب؛ فأثناء بعض الفترات التاريخية، كانت بعض أجزاء من شرق آسيا ساحة قتال مستمر إلى حد كبير، وتورطت البوذية، وكانت في أغلب الأحيان شريكا نشطا في أحداث العنف. وفي اليابان، في العصور الوسطى، أصبحت الأديرة البوذية مؤسسات كبيرة تمتلك الأراضي، وجندت رهبانا محاربين («سوهي») لحماية أراضيها ولتهديد أعدائها. وكانت المعارك تنشب بين الطوائف البوذية بعضها وبعض، وأيضا بينها وبين الحكام العسكريين («شوجون») والبلاط الإمبراطوري. ووجد كثير من محاربي الساموراي معتقدات وممارسات بوذية الزن تناسب نظمهم العسكرية إلى حد كبير؛ حيث دربوا عقولهم للوصول إلى حالة عالية من اليقظة مكنتهم من الاحتفاظ بتركيزهم وانضباطهم في ساحة المعركة. وتأثرت الفنون القتالية مثل المبارزة بالسيوف والرماية بمبادئ الزن، ومثل المعتقد الفلسفي المتمثل في اللامثنوية أو الخواء («شونياتا») أيديولوجية مناسبة ترافق تعطيل الأعراف الأخلاقية؛ ذلك الأمر الذي اعتقد الكثيرون أنه مناسب في أوقات الفوضى والاضطراب الاجتماعي.
وكانت هذه النزعة العسكرية واضحة أيضا في الفترة الحديثة؛ حيث قدمت الجماعات البوذية دعما فعالا للوطنية اليابانية. وقدمت مدارس الزن ومدارس الأرض النقية الدعم المالي أثناء الحرب مع الصين في الفترة من 1937 إلى 1945، وفي الحرب العالمية الثانية دعمت معظم المدارس البوذية (باستثناء مدرسة سوكا جاكاي) الحملة اليابانية على الحلفاء. وقد اشترك أيضا الرهبان والراهبات الصينيون في الحرب الكورية. وقد ألقى أحد الرهبان، المبجل شينداو، خطابا في عام 1951 قال فيه: «إن إبادة الشياطين الأمريكيين الإمبرياليين الذين يدمرون السلام العالمي تتفق مع المعتقدات البوذية؛ فهو أمر لا يستحق اللوم، لكنه في واقع الأمر سوف يجعلنا نستحق المكافأة.» وعلى الرغم من تأكيد التعاليم البوذية على السلمية، فإن التاريخ يكشف التورط المستمر للبوذيين، العوام والرهبان على حد سواء، في الحروب على مدار قرون كثيرة.
صفحة غير معروفة