وبعد ذلك يوجه الانتباه نحو مختلف أنواع المشاعر التي تراود المرء؛ فيلاحظ المتأمل المشاعر الجميلة والبغيضة عند ظهورها ورحيلها. وهذا الأمر يعزز إدراك عدم الديمومة ويؤدي إلى معرفة أنه حتى هذه الأمور التي تبدو لصيقة بنا وأقرب إلينا - مثل عواطفنا - هي حالات عابرة تأتي وترحل. وبعد ذلك يلاحظ المتأمل حالته المزاجية الحالية والتقلبات المستمرة في سمتها وطابعها ككل، وفي النهاية يتأمل فيض الأفكار الذي يجول بخاطره. ويجب أن يقاوم المتأمل الرغبة في الاستغراق في أحلام اليقظة والتخيلات؛ فهذا أمر حتمي الحدوث. وبدلا من ذلك، يجب أن يلاحظ بتجرد تام الأفكار والصور وهي تتبع إحداها الأخرى، وأن يعتبرها مثل السحب التي تمر عبر سماء زرقاء صافية، أو أن يعتبرها مثل الفقاقيع التي تطفو إلى سطح الكوب. ومن خلال هذه الملاحظة المتجردة سيتضح تدريجيا أنه حتى العقل الواعي للإنسان ليس إلا عملية مثل غيره من الأمور الأخرى. ويعتبر معظم الناس أن حياتهم العقلية هي جوهرهم الداخلي الحقيقي (فالمرء منهم يتمثل المقولة الشهيرة لديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود.») لكن تأمل التبصر يكشف أن تيار الوعي هو مجرد أحد أوجه التفاعل المعقد بين عوامل الفردية الخمسة، وليس «الحقيقة الفعلية» للفرد.
إن إدراك عدم وجود فاعل خفي يمتلك هذه الأحاسيس والمشاعر والحالات المزاجية والأفكار المختلفة، وأن كل هذه الموجودات هي التجارب ذاتها؛ لهو تبصر يمثل نقطة تحول تؤدي إلى التنوير. علاوة على ذلك، فإن يقين المرء بأنه لا يوجد في نهاية المطاف كائن «لديه» رغبات يضعف ويدمر في النهاية الشهوة إلى الأبد؛ فيجعلها «مثل نخلة دمرت جذورها ولن تنمو مجددا أبدا.» ومن الناحية التجريبية، يبدو الأمر كأنه حمل ثقيل قد أسقط عن كاهل المرء، فتصمت صيحات الأنا بأباطيلها وأوهامها وشهواتها وخيبات أملها. ولا تتمثل النتيجة في نوع من السلبية الرواقية؛ لأن العاطفة لم تكبح، بل ببساطة تحررت من قوة جذب الأنا المشتتة. وتبدأ مشاعر أخرى في الظهور على نحو أكثر اكتمالا في الأفق العاطفي للمرء مع تباطؤ وتوقف دوامة الشهوة والإشباع الأنانية، ويحل محلها إحساس عميق ودائم بالسلام والرضا.
تطورات الماهايانا
يمكن أن نجد في الماهايانا مجموعة معقدة من أساليب التأمل، كما صاحب الطرق القديمة تأكيد جديد على التمكين والفعل. ويمكن تحديد ثلاثة أنواع رئيسية في الممارسة التأملية. في النوع الأول، استمر النظام القديم المتمثل في التأمل الهادئ المستبصر الذي يتميز بالسكون والانسحاب، لكنه أصبح مشحونا الآن باعتقاد قوي جديد يجعل التأمل أساس الفعل الأخلاقي في هذا العالم. ويمثل النوع الثاني استعادة للأساليب الحالمة والمنتشية السابقة لعهد البوذية التي كانت تهدف إلى تكوين أشكال من الواقع البديل واكتساب قوة سحرية. واعتمدت هذه الأساليب على عملية التخيل؛ حيث ينتج المتأمل لنفسه بالفعل واقعا بديلا مثل «الأرض النقية» التي يتخيل نفسه فيها قد ولد من جديد (انظر رؤية «الأرض النقية» التأملية أدناه)، وهذه الأساليب نفسها هي أساس تأملات «التانترات» المعقدة. وفي هذا الصدد، يخلق المتأمل عالما يرى نفسه فيه بمنزلة البوذا الرئيسي؛ حيث يعيش داخل مسكن علوي للمعرفة يعرف باسم «ماندالا». وداخل هذا الواقع التأملي الجديد، يتحكم المرء على نحو خارق في الرموز القوية لتحوله الذاتي، ويدفع نفسه إلى تحقيق التنوير الأمثل.
ويتضمن النوع الثالث من التمرين التأملي اكتساب أساليب جديدة عفوية لتحقيق تجربة حرة مباشرة. وهذا الازدهار الأخير للعبقري المتأمل البوذي يحدث خارج الأكاديميات. وفي هذا الصدد، كان البحث يسعى إلى أسلوب يهدف مباشرة إلى التنوير في العالم من خلال نوع فعل متحرر وسط أحداث الحياة اليومية. ويبدو أن هذا البحث عن العفوية وثيق الارتباط بتقليد التانترا، وكان مصطلح «الرمز العظيم» («ماهامودرا») يستخدم باعتباره مصطلحا عاما للدلالة على مجموعة كاملة من مثل هذه الأساليب التأملية. وفي هذا النوع لا يركز المتأمل على شيء خارجي، بل يركز على أفكاره، التي تعد المصدر الفعلي لضلاله؛ فيراقب وميض أفكاره، ولا يحاول السيطرة عليها ولا الوقوع تحت سيطرتها. وتدريجيا يتعلم أن يجعل عقله في حالة تدفقه الطبيعي؛ فيطرح كل التصنيفات ويتخلى حتى عن فعل الانتباه، بحيث يترك عقله في حالته الأصلية؛ وبذلك يتعلم أن يدرك كل حدث عقلي على طبيعته الحقيقية؛ وهي الخواء. ومن خلال إدراك كل فكرة يتحرر تلقائيا من كل فكرة؛ فيدرك أن كل حدث يمر به إنما هو فطري وعفوي، وأن كل حدث - نظرا لأنه خاو - تنوير في حد ذاته. وفي هذه المرحلة، لم يعد الشخص يمارس «التأمل» باعتباره ممارسة رسمية، بل يسكن عفويا في فيض الحياة اليومية.
رؤية «الأرض النقية» التأملية
يجلس المتأمل موليا وجهه صوب الغرب، ويتخيل أولا غروب الشمس إلى أن يستطيع رؤية الغروب إما وعيناه مفتوحتان وإما وهما مغمضتان. يحدق في الماء، ويتخيل أن الماء أصبح ثلجا، وأن ذلك الثلج أصبح بلورا، وأنه على هذه الأرضية البلورية يوجد برج من الضوء الساطع. ويتخيل أن الأرض مملوءة بالذهب والجواهر اللامعة، وأن كلا منها واضح للغاية لدرجة أنها تظل دائما أمام عينيه. ويتخيل أشجارا مرصعة بالجواهر ذات أوراق وزهور لامعة، حيث توجد مساكن أبناء الآلهة. ويتخيل جداول وبحيرات بلورية مملوءة بأزهار اللوتس، تتدفق على قيعان ذات رمال ذهبية وماسية. ويتخيل أن الأرض النقية كلها مملوءة بخمسمائة مليون خيمة مرصعة بالجواهر تمتلئ بالآلهة الذين يعزفون موسيقى سماوية مدحا للقانون ... وأخيرا يتخيل نفسه يولد في أرض السعادة الغربية هذه، وهو جالس داخل زهرة لوتس. لقد اكتنفته الزهرة داخلها، لكنها الآن تفتح بتلاتها. وتسطع أشعة الضوء على جسده عندما يفتح عينيه ويرى البددة والبوديساتفات يملئون السماء!
من «سوترا أميتايوس التأملية» (أميتايورديانا سوترا)
والبحث نفسه عن كل ما هو طبيعي وعفوي يميز أيضا تقليد الزن، كما أشرنا في الفصل السابق. ويبدو أن المعلمين الأوائل قد علموا أساليب شديدة الشبه بتلك المستخدمة في أسلوب الرمز العظيم. وأصبحت حكايات الأفعال الغريبة والرائعة التي قام بها المعلمون بمنزلة النماذج الأولى للأصالة التي يتم تقليدها ثم أصبحت بمنزلة موضوعات للتأمل في حد ذاتها؛ حيث اعتقد أنها تشتمل على مفتاح الوصول إلى الحقيقة.
ملخص
صفحة غير معروفة