نسيمات من عبق الروضة الشريفة
قراءة معاصرة في أذكار رسول الله ﷺ
الحياتية واليومية
تأليف
أمل أحمد طعمة
حقوق الطبع والنشر محفوظة لجميع المسلمين ١٥/ ٦ / ٢٠١٢ الموافق ٢٥ رجب / ١٤٣٣ هـ الطبعة الأولى
حقوق الطبع والنشر محفوظة لجميع المسلمين ١٥/ ٦ / ٢٠١٢ الموافق ٢٥ رجب / ١٤٣٣ هـ الطبعة الأولى
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
سورة آل عمران: (٣١)
1 / 2
إهداء
إلى العظيم .. الكريم .. إلى الحبيب الأعظم
إلى خالقي ومنعمي .. إليك ربي ..
إلى صاحب الفضل .. إلى فارس البشرية .. إلى معلّم الحب الأصيل ..
إليك سيدي رسول الله عبقًا من أنوارك وعبيرًا من أزهارك.
إلى الجيل الواعد ... جيل المستقبل ..
إليكم أهدي باقات من عطر الماضي المجيد والحاضر المشرق علّها تعيد للقلب نبضه، وللحياة معناها، وللأمل أفقًا جديدًا في روضة الحبيب المصطفى ﷺ، وللأرض المجدبة إحياءً وبعثًا ..
1 / 3
المقدمة
قصرٌ عظيم .. مهيب الجانب .. ممتد الأطراف .. شامخ الطول .. إن دخلته أمنت نفسك .. وإن أوغلت فيه تسللت الطمأنينة والسكينة في أعماقك .. وإن أمعنت فيه دَاخَل الحب والسعادة قلبك وروحك. فإذا نسجت من طعامه خلايا فكرك وروحك سلم قلبك من كل سوء، وحافظت على سلامته فكنت ممن فازوا بالقلب السليم الذي هو شرط الفوز بالحياة الآخرة.
ذاك القصر ليس محجوبًا عن أحد .. فالدعوة عامة .. من غير قيد أو شرط إلا أن تكون مسلمًا. ولك أن تمكث فيه ماشئت فالإقامة فيه بالمجان، بل ويكافئك كلما أحببته وأقمت فيه.
طبعًا قصرٌ بهذه المواصفات ضربٌ من الخيال في هذه الحياة الدنيا .. لكنه ليس كذلك، إنه واقع حقيقي.
إنه قصر رسول الله ﷺ من أحاديث وأذكار .. كلما أمعنت نظرك، وفتحت قلبك وعقلك تفكّرًا أخذ بشغاف قلبك ولبّك من شدة عظمته وكثرة نفعه.
1 / 4
وإني أتقدّم بتواضع وخجل وحياء شديدين أن تخط يدي خطرات، وتسطر تجربة ضئيلة مع أذكار رسول الله ﷺ في المواقف الحياتية. إنما دفعني لذلك روعة ما رأيت، وجمال وبهاء هذه الكنوز وارتباطها بحال قلب المسلم الصحيح في كل موقف.
وإن تتبع هذا الرابط بين كلمات الذكر ومناسبتها للحال القلبي السليم الذي ينبغي للمسلم أن يكون عليه في الموقف، هو الذي شجعني لتسطير هذه الإضاءات.
وكأنه ﷺ يأخذ بيدك في كل موقف حياتي ليدلّك على الحال الذي يجب أن يكون عليه قلبك كي تكون ممن (إلا من أتى الله بقلب سليم) (١)، ولكي تكون في حرز وأمن وأمان من الشيطان ومن أهواء النفس اللذين يأخذاك بعيدًا عن هدفك.
إنّ هذه الأذكار لتبرمج المسلم وهو يرددها وتغيّر من حاله وترتقي به، شرط أن يحافظ على تردادها ويتفكّر في معانيها ويحاول التمثّل بها.
_________
(١) سورة الشعراء: ٨٩
1 / 5
إنها حصنٌ للمسلم وأمان له في هذه الدنيا التي كثرت ملهياتها ومغرياتها حتى غدت الغفلة مرض هذا العصر المزمن.
كما أنها ترفع الإنسان من الجو الأرضي لتحلّق به في أجواء السماء الرحماني، وتلحقه في مصاف الذاكرين وتبعده عن وهدة الغافلين.
يقول الله تعالى: (واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون). (١)
ويقول تعالى (والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا). (٢)
هذا الرابط المتين بين معاني الأذكار وتوافقها مع الحال السليم لقلب صاحبها، يمثل الجواب الكافي والبلسم الشافي إن سأل سائل نفسه تُرى ماذا علي أن أتصرف في هذا الموقف دون أن أتعرض لسخط الله؟ وما هو الحال الذي ينبغي لقلبي أن يكون عليه حتى يسلك السلوك الصحيح والرد السليم فأنجح في هذا الامتحان عند رب السماء؟
_________
(١) سورة الجمعة: ١٠
(٢) سورة الأحزاب:٣٥
1 / 6
فتأتي الرحمة المحمدية والرعاية الربانية في تسريب الجواب ضمن معاني الذكر الذي علمنا إياه حبيب الرحمن، ومعلم الناس الخير، وهادي البشرية للصراط المستقيم.
إلا أن كل هذه النفحات والفيوضات الربانية والآثار الإيجابية للأذكار لا يمكن أن يبلغها المرء إلا بتحقق شرطين: الأول التعمق في معنى الأذكار وإحياء هذه المعاني في القلب عندما يرددها اللسان والثاني المواظبة عليها وتكرارها عند حدوث الموقف.
عندئذٍ فقط يحصل المراد من هدف هذه الأذكار التي طالبنا بها الحبيب ﷺ أن نرددها. فيظل القلب سليمًا والسلوك منضبطًا وفق الصراط المستقيم، فيصبح الإنسان أهلًا يوم القيامة أن يكون من الفائزين، والذين هم فقط أصحاب القلوب السليمة كما قال الحق ﷻ في كتابه العزيز (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله يقلب سليم) (١).
_________
(١) سورة الشعراء: ٨٨ - ٨٩
1 / 7
وإني أرجو من الله ﷿ أن يتقبّل هذا العمل المتواضع بخير ... ما تقبّل به عمل عبد من عباده الصالحين، ويجعل فيه إحياءً لأذكار رسول الله ﷺ وتجديدًا لعبق الحب الأصيل للحبيب الحقيقي الذي لا يموت ولا يفنى.
وأتوجه إلى الحبيب المصطفى ﷺ بخجلٍ وحياء، علّه يكون عربون حب، ويد ولاء تمس يده الشريفة مبايعة محبة، عليّ أجد دفأها عند أول لقاء معه ﷺ في الدار الآخرة.
وصلى الله على سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه وسلم ومن تابعه إلى يوم الدين.
المؤلفة
١٥/ ٦ / ٢٠١٢
٢٥/ رجب/١٤٣٣
1 / 8
الأذكار الشريفة بين القديم والحديث
(برمجة العقل وتعديل السلوك)
كثر في هذا الزمان أهمية علم النفس، وذاع صيت البرمجة العصبية التي تناولت مواضيع النفس وتعديل سلوكها من خلال تعديل القناعات الشخصية.
ولعل مثل هذه الأبحاث ليست جديدة في علم النفس وتعديل السلوك، إلا أن طرحها لغير المختصين وبطريقة مبسطة وضمن خطوات وإطارات جديدة هو الذي جعل منها حديث الألسن.
ويقصد بمفهوم تعديل السلوك في علم النفس: تغيير السلوك من خلال تغيير ظروف البيئة المحيطة.
واختلفت نظريات تعديل السلوك وفق اتجاه المدارس في علم النفس. فالمدرسة السلوكية تركّز على الجانب الذي تستحق من أجله إجراء التغيير، وهي البيئة بمثيراتها المختلفة مثل التعزيز الإيجابي .. أما أصحاب النظرية المعرفية فمركز اهتمامهم الرئيسي هو تغيير إدراك
1 / 9
الفرد للمواقف التي يسلك فيها سلوكًا ما، والاهتمام هنا منصب على تعديل قناعات الفرد وافتراضاته التي قد تكون غير صحيحة نحو الأشياء أو الآخرين أو الحياة. أما أصحاب النظريات الإنسانية فيركّزون على تغيير إدراك الفرد لذاته، فهي تفترض أن مفهوم الفرد لذاته هو العامل الرئيسي وراء أنماط سلوكه المختلفة.
وهذه النظريات تستخدم أساليب كثيرة في تعديل السلوك من تعزيز وعقاب، أو أسلوب الإطفاء (الإمحاء) وهو الذي يستند إلى أن السلوك الذي يعزّز يقوى ويستمر، والذي لا يُعزّز يضعف وقد يتوقف نهائيًا.
وإن المتصفح لهذه العلوم ليجد جلّ تركيزها يتجه نحو توجيه الفرد نحو قناعات وتكرارها حتى تصبح جزءًا من بنائه المعرفي وطريقة تفكيره.
ولعل ما دعاني أن أتحدث عن هذا الموضوع هو تشابه عمل الأذكار اليومية في حياتنا لكثرة تكرارها، وعمق معانيها، وطريقة معالجتها الصحيحة للقناعات ووجهة التفكير في كل ظرف وفق الحاجة، مع نظريات تعديل السلوك الحديثة، مما يجعلها أول من استخدم طريقة
1 / 10
البرمجة وعلم النفس الحديث من أجل بناء التفكير السليم وتعزيز السلوك الصحيح في الفرد.
هذا هو الجانب المعرفي الحديث للأذكار، أما الجانب الروحي فقد عرفه الأولون وتمسكوا به ففازوا ونجوا من الأمراض النفسية التي يعاني منها الكثيرون في عصر باتت فيه العيادات النفسية كثيرة وأساسية في حياة الناس سيما في الغرب .. ولم يضر الأولين عدم معرفتهم بأصول هذا العلم، إذ عملوا به فأخذوا الوقاية قبل العلاج، فعاشوا سعداء وبنوا حضارة ما عرف التاريخ أزهى وأبهى منها.
وقد ذكر ابن القيم في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب) تسعًا وسبعين فائدة لذكر الله. وقد روي عن النبي ﷺ أن معاذًا سأل النبي ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلى اللهِ ﷿؟ قال: " أَنْ تَمُوْتَ وَلِسَانَكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ﷿" (١). وعنه أيضًا ﵁ مرفوعًا للنبي ﷺ " لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الجَْنَّةِ إِلا عَلَىْ سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوْا اللهَ فِيْهَا" (٢).
_________
(١) ابن حبّان الحديث: ٨١٨.
(٢) شعب البيهقي الحديث: ٥٣٨.
1 / 11
وعن عبد الله بن عمر ﵁ عن النبي ﷺ أنه كان يقول:
" لِكُلِّ شَيْءٍ صِقَالَةً، وإِنَّ صِقَالَةَ الْقُلُوْبِ ذِكْرُ اللهِ ﷿. وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَىْ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ " قالوا: وَلا الْجِهَادَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ؟ قال:" وَلا الْجِهَادَ إِلا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّىْ يَنْقَطِعَ" (١). ويذكر ابن القيم أن في القلب قسوة لايذيبها إلا ذكر الله تعالى، فقد ذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلًا قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي. قال: أذبه بالذكر.
والذكر أصل موالاة الله ﷿ ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لايزال يذكر ربه ﷿ حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه. (٢)
فكأن العلم الشرعي قديمًا كان يركّز على تقديم العمل عن التفكّر في فوائده وآثاره، وذلك لكثرة التصاقهم بالحبيب المصطفى ﷺ وحبهم الشديد للاقتداء به، أما في عصرنا الحديث فقد قست القلوب وشردت عن الحبيب الحقيقي، وثقلت بالارتباط الأرضي المادي عن السباحة في الملكوت العلوي والاتصال بالمصدر الأصيل للسعادة
_________
(١) الدعوات الكبير الحديث: ١٨.
(٢) انظر كتاب: الوابل الصيب من الكلم الطيب. للإمام ابن قيم الجوزية. ص ٦٦.
1 / 12
والحبور. فما وجدنا الصحابة يعدّدون فوائد العبادة والأذكار، فهو شيء بديهي لأن الآمر هو الله الخالق العليم الحكيم، كان جل اهتمامهم أن تقع قدمهم فوق قدم الحبيب المصطفى ﷺ، وتلامس أرواحهم ملكوت السموات والأرض وتلتقي هناك مع المصطفى ﷺ، فحصدوا الثمار الطيبة من غير عنت. أما نحن فقد ألهتنا الجواذب الأرضية فانشغلنا في النظر بالشكل والهيئة عن الجوهر والمضمون، وبالعلم العقلي عن تذوق هذا العلم والعمل به، فجاء علمنا ناقصًا لا فائدة منه سوى تسطير السطور وقراءة الحروف من غير طعم أو رائحة، إلا من رحم ربي. والبون شاسع بين الأولين والآخرين! إلا أن نعود إلى تذوقه كما ذاقه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وننهل من نفس النبع قبل أن يصيبه الكدر وتشوبه المشارب الأخرى.
1 / 13
ما يقول إذا أوى إلى فراشه وإذا استيقظ من نومه
عن حذيفة بن اليمان كان رسول الله ﷺ إذا أوى إلى فراشه قال:
«باسمك اللهم أحيا وأموت»
وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور» (١)
(باسمك اللهم) منتهى الخضوع والاستسلام والبرء من حول الإنسان وقوته .. إنها ردّ النّعم إلى المنعم ... ورؤية الحق عن رؤية النفس.
(أحيا وأموت) تمثل تذكّر الآخرة وقصر الحياة الدنيا وقرب الأجل.
صور عديدة تجول في النفس، لو تفكر الإنسان عندما يذكر دعاء النبي ﷺ وهو يضع رأسه على وسادته كل يوم لغيّر كثيرًا من سلوكه وربما اتخذ قرارات مغايرة لليوم الثاني.
_________
(١) جميع الأذكار الواردة في هذا الكتاب من كتاب " الأذكار النووية " للإمام محيي الدين النووي الدمشقي. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط.
1 / 14
صور تقفز إلى المخيلة .... الحساب قريب والأجل يدنو ولا يملك الإنسان حياته أو مماته.
إذن ما فائدة المشاحنة مع فلان اليوم؟ وما ضرورة قطع الصلة بآخر؟ ولماذا أقترف ذنبًا إذا كنت لا أعلم أسيشرق فجر جديد علي أم لا؟
بهذا الحال يستحيل على أي إنسان بعد ذلك أن يفكر بخاطر سوء أو يبات على غير طاعة .... لابد أن لسانه سيلهج ببعض السور والمعوذات، وستجول بقلبه أفكار رحمانية تسأل الله الغفران والقبول.
بهذا الدعاء الذي لا يجاوز الأربع كلمات يرشدنا الرسول ﷺ إلى الحال الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم في هذا الوقت .. عندما يستعد للنوم.
دعاء صغير لكنه يحمل معانيَ جليلة وتطالب المسلم بأحوال معينة .... كل يوم .... الدعاء نفسه .... وكأنه نوع من البرمجة للنفس الإنسانية حتى يصبح تذكّر الموت وقصر الأجل حالًا حاضرًا، فيكون المسلم قد بلغ «عرفت فالزم». ألم يصل سيدنا معاذ إلى هذه الحالة عندما سأله الرسول الكريم ﷺ كيف أصبحت يامعاذ؟ فكان جواب سيدنا معاذ: مؤمنًا حقًا، فكان الدليل على صدق المقام الذي وصل
1 / 15
إليه أحوال الإحساس بالآخرة وقرب الأجل (ما أصبحت إلا ظننت أني لا أمسي وما أمسيت إلا ظننت أني لا أصبح) فما كان جواب رسول الله ﷺ إلا أن صدّق قوله وحاله، وأنهما مؤشران صادقان أنه مؤمن. (عرفت فالزم) فالزم أي هكذا ليكن ديدنك ... استمر على هذا الحال.
عن أنس بن مالك، أن معاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنه دخل على رسول الله ﷺ فقال:"كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا مُعَاذُ؟ "قال: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًَا بِاللهِ تَعَالَىْ، قال:"إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ مِصْدَاقًَا، وَلِكُلِّ حَقٍّ حَقِيْقَةً، فَمَا مِصْدَاقُ مَا تَقُوْلُ؟ " قال: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا أَصْبَحْتُ صَبَاحًَا قَطُّ إِلا ظَنَنْتُ أَنِّيْ لا أُمْسِيْ، وَمَا أَمْسَيْتُ مَسَاءً قَطُّ إِلا ظَنَنْتُ أَنِّيْ لا أُصْبِحُ، وَلا خَطَوْتُ خُطْوَةً إِلا ظَنَنْتُ أَنِّيْ لا أُتْبِعُهَا أُخْرَىْ، وَكَأَنِّيْ أَنْظُرُ إِلَىْ كَلِّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٍ تُدْعَىْ إِلَىْ كِتَابِهَا مَعَهَا نَبِيُّهَا وَأَوْثَانُهَا الَّتِيْ كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُوْنِ اللهِ، وَكَأَنِّيْ أَنْظُرُ إِلَىْ عُقُوْبَةِ أَهْلِ النَّارِ وَثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قال: " عَرَفْتَ فَالْزَمْ". (١)
_________
(١) حلية الأولياء حديث: ٨٥٣
1 / 16
إنّ الرسول العظيم والمربي الكبير يعلمنا ويأخذ بأيدينا ففي كل أمر نقوم به يعلّمنا ذكرًا أو دعاءً، هذا الدعاء هو صمام أمان لنا إن قمنا بذكره منفعلين به متذكرين لمعانيه، وإن استمرار هذا التفكّر والتذكر لا بد أنه سيؤثر يومًا ما حتى يصبح هذا الدعاء حالًا، واستمرار هذا الحال سيورثنا مقامًا ... مقام المؤمن، وإن استمرار ذلك المقام سينقلنا إلى مقام الإحسان، فمن غدا عنده ذكر الله في كل لحظة حالًا دائمًا لابد وأن يلحظ المنعم في كل لمحة محيطًا به، ناظرًا إليه.
(وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) (١)
فيستحق بذلك مرتبة الإحسان (أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (٢).
كلمات أربع سحرية ... السر فيها تذوق عباراتها ... ثم الاستمرار عليها كل يوم، هذه الكلمات الأربع ستحلّق بك في عالم الروح بعيدًا عن ثقل الجسد، إنها منافذ السماء للأرض ومدارج الروح لبارئها لو تمسك بها المسلم لتغيّر وجه الأرض.
_________
(١) سورة الحديد: ٤
(٢) بخاري الحديث: ٥٠.
1 / 17
وصدق رسول الله ﷺ: " مَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِيْ عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِيْ فَلَهُ أَجْرُ مَائةِ شَهِيْدٍ " (١).
ولأجل ذلك كان كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هما النهجين اللذين يجب على المسلم عدم الحياد عنهما وإن تمسك بهما أفلح وإن تركهما تنكب عن الطريق.
أما دعاء الاستيقاظ (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
فالابتداء بالحمد ... ما السبب؟
إن تكرار عملية النوم والاستيقاظ تجعلنا معتادين عليهما، وهذا ينسينا الحقيقة التي لا نشعر بها رغم صحتها، هذه الحقيقة أن الروح ترتفع وتقبض عند النوم وعندما نستيقظ تكون قد عادت إلينا.
إن تذكّر هذه الحقيقة صباح كل يوم جديد تبعث في النفس إحساسًا له صلة بدعاء النوم ... له علاقة (ما أمسيت إلا ظننت أني لا أصبح) إنه الحال نفسه الذي على المسلم أن يستشعره كل يوم ويتذكره كل
_________
(١) الزهد الكبير للبيهقي حديث: ٢١٥
1 / 18
مساء، وهو يبعث في النفس القوة والشعور بالأمان لأن الذي يحيي ويميت هو الله فليس بمقدور أحد أن يُنهي حياة أحد إلا إذا كتب الله وشاءت قدرته العلية ذلك.
هذه القوة قد يحتاجها المسلم عندما يبدأ صباحه بغيب لا يعلمه، إنه يحتاج ذلك الشعور ليبدأ يومه الجديد مستظلًا برب السموات والأرض ومستمدًا منه قوته.
(وإليه النشور) ... يوم الحساب ... وما أشد حاجة المسلم وهو يمارس حياته اليومية ويلاقي أذى من هذا أو كذبًا من ذاك أن يتذكر أن العودة إلى الله .. والمآل إليه ... وأن اليوم عمل بلا حساب وغدًا حساب بلا عمل، فتتهذب أخلاقه ويلتزم الصدق والوفاء بالوعد لأن الحساب قريب والديّان لا يموت، حتى إذا ضعفت نفسه أحيانًا وعاد إلى بيته وأرسل رأسه نحو فراشه، وأخذ يتلو دعاء النوم تذكّر الحساب والآخرة، فمرّ شريط حياته اليومي، فتذكّر ذنبه، فاستغفر وعزم على إصلاحه في اليوم الثاني.
إن من كان هذا حاله فلا بد أنه يومًا بعد يوم سيتخلص من عيوب كثيرة وستزدان شخصيته بأخلاق رفيعة وستسمو روحه إلى المستوى
1 / 19
الذي أراده رسول الله ﷺ على من بدأ بالحمد وتذكّر البعث وأتم يومه بذكر الموت والحياة وذكر المنعم الخالق.
إنه حال الخوف من يوم الحساب، يتقلّب فيه العبد في أول يومه وآخره حتى يكون حال الخوف محرّضًا للأعمال الصالحة، حاجزًا عن الخواطر الشيطانية، ومسرّعًا لخطوات السير إلى الله.
وصدق الله العظيم (كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين) (١).
جوامع الكلم هي فعلًا أحاديث رسول الله ﷺ معانٍ كثيرة وأحوال رفيعة في كلمات معدودات، لو أبصرها العاقل لسعد ولو استمر عليها لملك الدنيا والآخرة.
_________
(١) سورة الأنبياء: ٩٠
1 / 20