2
عالية فيعرض عليه لبادته الخاصة قائلا: «أعف شجري من رؤية هذه الأداة!»
وحب بسمارك لأشجاره أكثر من حبه لزواره ومن حبه لألمانية، وقد قال محدثا عن الأشجار ذات مرة إنها من الأجداد، والآن يود اتخاذ مقره الأخير بينها، ويختار صنوبرتين عظيمتين ويطلع عليهما خلصاءه ويقول لهم: «أريد أن تكون راحتي الأبدية هنالك في المكان الأعلى بين تينك الشجرتين حيث هواء الغابة الطلق وحيث يمر علي نور الشمس والنسيم العليل، فمما أكرهه أن أوضع في صندوق ضيق وأحبس تحت الأرض.» ثم يتكلم عن الهنود وقدماء التوتون الذي يعلقون موتاهم بين ذرى الشجر، يقول هذا وهو يعرف أن ضريحا ضخما ينتظره في مكان آخر، يقول هذا وهو يعرف أن كتابة قبره تنقش، وتجده يميل إلى مردة الغابة مع ذلك، ولو كان يستطيع السير وراء ميله ما كان له ضريح ولا كتابة قبر غير الريح ونور الشمس.
إذن، ينتهي بسمارك كما بدأ وثنيا ثوريا قائلا بوحدة الوجود، وينم على هذا كل كلمة فاه بها بين خلصائه، وبسمارك مع ذلك يرضى الآن كما رضي في الماضي بطقوس المؤمن بإله النصارى، وسيكون له قبر شريف، وستنقش أسلحته على هذا القبر، وسيقال على حجر قبره إنه خادم الملك المخلص مع أنه لم يكن خادم أحد وقد مارس القيادة مدة أربعين سنة، ولم هجر غاباته التي كان فيها وحده مع النور ومع الرب فيبدو ملكا في أرضه؟ ولم تحول عن الفلاحين والطرائد وأشجار البلوط المئوية التي كان يلعب تحتها وليدا وينعم النظر فيها شابا ويستجم حولها سياسيا ويستمع لحفيف أوراقها شائبا؟ وما الذي ربحه فؤاده من هذا الرحيل؟
كلا، لا رضا، وتتبدد أوهام الشيخ، ويكره على الزهد، وهو حين يفكر في هذا يبحث عبثا عن ساعات العمل التي كانت له سعادة فيها، ولم تكن له نشوة من نجاح أو مجد أو جلال أو نصر، أو من انتقام تقريبا، ويبصر دنو أثره من الخطر نتيجة لجهل خلفائه، ويبصر ارتجاج أثره نتيجة لخفة خلفائه، ويرى تمايل أثره في العصر الجديد، وسيدب الوهن فيما شاده، وسيكون موضع شك ما وجده ثابتا، وسيصاب بالعطب مبدؤه حول الدولة، فلن يكون العاهل صاحب السلطة العليا، ولن يكون الشعب محل ازدراء، وهو إذ يقذف به خارج سبيله يغدو ضمن دائرته الواضحة الغامضة، ولا يجد في كل وقت أجوبة عن الأسئلة التي وضعها عن العدمية في أثناء فتائه متبعا تلك الطرق التي كان بسمارك الصبي يسلكها راكبا حصانا، فصار بسمارك الشائب يسلكها راكبا عربة صامتا مفكرا في وسط الغابة.
وتمضي ثلاثون سنة، فيقف الألمان عند ضريح بسمارك ويخفضون راياتهم تحية له، وكان البناء الذي شاده هذا المعلم من البساطة والمتانة ما عاش معه أطول مما جاء في نبوءته، وقد زال جميع أمراء الألمان الذين استند إليهم في إقامة الريخ، ولم يجرؤ أحد منهم أن يمتشق مثل الحسام الذي كان يستله أمير فردريكسروه ببسالة حتى في الثمانين من سنيه، وترى الإمبراطورية ثابتة أمام عمايات أوروبة مع ذلك، وترى تلك القبائل الألمانية التي لم يؤخذ رأيها قط، وترى تلك الشعوب الألمانية التي عدت موافقتها غير ضرورية، وترى تلك الأمة الألمانية التي ظلت قبل ذلك منقسمة ألف سنة، قد ظهرت متحدة في أثناء الحرب الكبرى، وبقيت حية بعد تغيير نظام الحكم، فهي وإن خسرت ملوكها وأمراءها لم تخسر وحدتها الألمانية.
وتعيش ألمانية، وقد خذلها أمراؤها في محنتها، غير أن الشعب الألماني الذي اعترف بسمارك بمزاياه الرائعة بعد حين ظل ثابتا، فأنقذ أثر بسمارك من الدمار.
فهرس التواريخ
الجزء الأول (1815-1851)
1771:
صفحة غير معروفة