304

بسمارك: حياة مكافح

تصانيف

الفصل السابع عشر

«سأكافح ما بقيت عندي قوة!» هذا ما قاله المستشار البالغ من العمر اثنتين وسبعين سنة مهددا الريشتاغ الذي انتصب مقاوما لإرادته.

استقرت السلم بينه وبين اثنين من أعدائه، وهو لم يسترض حزب الوسط إلا مقدارا فمقدارا، مستردا معظم تدابيره ضد أعضاء هذا الحزب، خاتما النضال، منذرا الريشتاغ بلطف حيث يقول: «إننا نضع أسلحتنا في مستودع الأسلحة، ولكن على ألا تكون بعيدة منا.» وفي شتاء سنة 1879، وللمرة الثانية يبدو فيندهورست في ردهة بسمارك البرلمانية فيرحب به أجمل ترحيب، ويكتب البابا الجديد إلى الإمبراطور وإلى بسمارك أيضا، وبعد بضع سنين يجعل البابا لوثر العصري من فرسان يسوع؛ أي ينعم عليه بالوسام الأكبر مع الصليب والشعار المالطي محتويا ذلك كله كتابات لاتينية، ويتجهم بسمارك، وتقول صحيفة كلاديراداتش: «ذهب بوتكامر إلى رومة ليرجو من الحبر الأعظم أن يؤثر في بسمارك وصولا إلى قبول التهجية الجديدة.»

وما كان من مسالمة المحافظين فتدبير انتهازي على حد سوي، وهو أمر مرتبط في مسالمة حزب الوسط، وكانت انتخابات سنة 1877 قد أسفرت عن فوز المحافظين وخسران الأحرار الوطنيين، فساعد بسمارك على انفصال كل من هذين الحزبين عن الآخر، وأراد بسمارك أن يكتسب السياسي المطواع نسبيا بنيغسن فيجعله وزيرا، قاصدا إفراد لاسكر العنيد، بيد أن بنيغسن أبصر أنه لا يكون غير آلة مسخرة لمقاصد بسمارك، فرأى ألا يجازف بمقامه فاشترط أن يشترك اثنان من أعضاء حزبه في الوزارة معه، ويلغى البرنامج لهذا الشرط، ويعرض بسمارك عن بنيغسن ولا يريد أن يسمع عنه قولا مع أنه ود أن يكون زميلا له في الوزارة، ويقول بسمارك: «لا أستطيع أن أصنع شيئا مع بنيغسن وميكويل اللذين ينساقان مع الرأي العام انسياقا تاما، وهما ليسا أفضل من أحد تلاميذ الصف الرابع!»

ونشأ عود بسمارك إلى سياسته الحزبية في شبابه عن نظام الحماية الذي أدخله سنة 1879 بعد أن طبق مبدأ حرية المبادلة أربع عشرة سنة، فنظام الحماية عنده وسيلة لزيادة سلطان الدولة، وهو يعد أن ساعد الإمبراطورية يشتد بوضع يدها على الخطوط الحديدية وبفرض ضرائب غير مقررة على الأموال، وهو يحرص على سن ضرائب جديدة، وقد أسف عندما علم وجود زيادة تسعة وثلاثين مليونا بسبب دفع الغرامة الحربية، فقال: «خير للحكومة أن تحتاج إلى نقود حتى تتمكن من فرض ضرائب جديدة.» ولم يمنعه الأمر القائل بأن معظم عبء تلك الضرائب يقع على الطبقة الرابعة من أن يخضع للضرائب «مواد الجمهور الكمالية»؛ كالتبغ والجعة والسكر والقهوة والبترول، و«حماية الصناعة والزراعة» وحدها هي التي صارت تسمع في أنحاء الإمبراطورية الألمانية للمرة الأولى، وما أدلى به بسمارك من علل حول التعريفة الجديدة فأمر بارز، قال بسمارك:

إن حرية المبادلة مثال عال جدير بهيام الألمان الوهمي، وقد تبلغ هذه الحرية في المستقبل، وأهتدي بالعلم إلى حد كما في أمور الحياة الأخرى، ولم يحل علم الطب هذه الألغاز، وتطبق مثل هذه الملاحظة على شئون الدولة، وتجعلني مبادئ العلم المجردة فاترا، وأحكم في الأمور بتجربة الحياة اليومية، والآن أشعر بأننا جعلنا تعريفتنا منخفضة، فصرنا في حال نزيف، فيجب أن نطعم الجسم الألماني بدم جديد.

ولا يزال بسمارك يستعمل كلمة «أشعر» كما كان يفعل منذ خمس وعشرين سنة، وهو يعارض العلم بالتجربة، ويعد كل ما هو ذهني أوهاما، ويريد بسمارك في الحقيقة أن ينزع من الريشتاغ حق مراقبة الميزانية، واليوم يود بسمارك - كما في الماضي - أن يجمع للدولة ما يمكن من المال بضريبة الدخل، فذلك كله برنامج محافظ!

وتقع الانتخابات بعد سنتين، ويعطي الناخبون جوابهم، وينتخب ما يزيد على مائة من الأحرار، وينال حزب الوسط مائة كرسي، ويتعاهد الحزبان على معارضة كل تغيير في السياسة الاقتصادية، وتكون الأكثرية ضد المستشار! ويقول غوستاف فريتاغ في كتاب خاص دبجه يراعه في ذلك الدور: «إن الانتخابات التي تمت هي عند بسمارك نفسه وعند الشعب وعند العالم الخارجي دليل على أن جبروته ليس مطلقا على الرغم من سمته التي وسم بها الأمة والتي تسوق إلى نهاية، وقد خسر كثير من حيله تأثيره، والآن يدرك الشعب ماذا تنطوي عليه روحه الروائية من أسد وذئب وثعلب، وأخيرا ومع الزمن أخذ الألمان يعرفون أن هذا الرجل الذي عزوا إليه كل عظمة وصلاح على أسلوبهم لا يتصف بجميع صفات رجل القلب، لقد حل وقت اعتزاله، ولكنه عظيم، جسيم، فهيم!»

تلك هي الحال التي كانت عليها النفوس حينما بدأ بسمارك يكافح معظم الأمة بعد تأسيس الريخ بعشر سنين وبعد أول الصدام بعشرين عاما، وصار على بسمارك في كل مشروع جديد أن يكون صاحبا لأكثرية جديدة، وصار بسمارك مضطرا إلى تحويل أسلوب المحالفات في المجلس كما يصنع في سياسته الخارجية، وصار بسمارك يصب اللعنات على كل معارضة مهما كان نوعها، وصار بسمارك يعد حزب الوسط والألزاسيين والبولونيين والاشتراكيين أعداء للإمبراطورية!

والآن عندما يصعد هذا المكافح في المنبر يبدو مجدد الشباب، فيقول في سنة 1880: «عشت وأحببت وجاهدت، فعدت لا أشعر بنفور من الحياة الهادئة، والأمر الوحيد الذي يمسكني في منصبي هو إرادة الإمبراطور الذي لا أقدر على تركه بعد أن طعن في السن كثيرا»، ويمضي عام فتكون نتيجة الانتخابات معاكسة له فيقول: «سأموت مناضلا إذا أراد الله، وقد أموت في هذا المكان إذا جاء أجلي، ويعدو الحصان الأصيل إلى أن يهلك، وكنت أفكر في الانزواء ذات حين، ومن المفيد أن أنبئكم بأنني عدلت عن كل فكر من هذا النوع، فأنا حيث أنا، وسأظل حيث أنا! وإرادة الإمبراطور وحدها هي التي تستطيع أن تنزلني من فوق السرج، والذي يقنعني بالبقاء حيث أنا حتى النهاية هو أن أتبين أولئك الذين يسرون من اعتزالي، من أجل ذلك عزمت على خدمة بلادي إلى آخر رمق من حياتي.»

صفحة غير معروفة