296

بسمارك: حياة مكافح

تصانيف

الفصل الخامس عشر

خالي العزيز، أجد في صداقتكم الدائمة ما يشجعني على التعبير بصراحة عن أمر دقيق أزعجني كثيرا؛ وذلك أن سلوك وكلاء ألمانية الدبلميين في وقت مضى كان ينم على خصام لروسية مناقض لتقاليد الصداقة التي سارت عليها سياسة حكومتينا منذ قرن فكانت منسجمة مع مصالحهما المشتركة، وقد ظلت هذه الصداقة ثابتة غير متغيرة عندي، فأرجو أن يكون الأمر لديكم كذلك، بيد أن العالم يحكم في الأمور بالأعمال، ويظاهر الإنكليز والنمسويون الترك فيضع هؤلاء العراقيل في طريق البلغار، والآن يجب على أكثرية ممثلي أوروبة أن يقرروا، وتؤيدنا فرنسة وإيطالية على حين يسير الألمان - كما يظهر - مؤازرين لوجهة نظر النمسة مؤازرة مطلقة ومعاكسين لنا معاكسة منظمة ...

ولي منكم الصفح، ولكنني أجد من الواجب أن ألفت نظركم إلى النتائج السيئة التي قد يؤدي إليها ذلك في صلاتنا الودية، وما اتخذته صحافة كلا البلدين من الوضع فأخذ يزعجنا، ولا يغيب عني ما يجب أن تكونوا عليه من حسن العلاقات بالنمسة، ولكن الذي لا أدركه هو أن يكون لألمانية مغنم من التضحية بالمصالح الروسية، وهل يجدر بقطب سياسي كبير أن يتأثر بما يواثبه من كمد شخصي عندما تمس المسألة مصالح دولتين كبيرتين أسدت إحداهما إلى الأخرى في سنة 1870 ما لا يمكن نسيانه من الخدم كما أقررتم؟ وما كان ينبغي لي أن أذكركم بذلك لولا بلوغ الأحوال من الخطورة ما لا يجوز لي معه أن أكتم عنكم مخاوفي حول النتائج الشديدة لكل من بلدينا، أنار الله لكم السبيل ودفع ذلك البلاء عنا.

ويقرأ ولهلم ما اشتملت عليه رسالة القيصر المطولة تلك من العبارات الخطيرة في شهر أغسطس سنة 1879، ولا يزيد ما يراه من جد في محتوياتها على ما يراه كاتبها، وغير قليل ما حدث من تحاك الحليفين في غضون المائة سنة الأخيرة وتصادم مصالحهما، ولكن الأمور كانت تسوى بينهما على الدوام، ومن مبادئ بسمارك أن ألمانية وروسية صديقتان طبيعيتان، وبلغ بسمارك من اعتقاده ذلك ما رأى معه أن ما بدا من حملة صحافية بعد مؤتمر برلين لا ينتظر تأثيره في مشاعر قيصر روسية وإمبراطور ألمانية حول شرعية العروش، ولا في حركة القطع على رقعة شطرنجه.

وما بين البلدين من حدود مشتركة طويلة وما ليس لدى البلدين من وجود سبب لاحترابها، فكان يجعل بسمارك منذ خمس وعشرين سنة حتى في الأدوار الخطرة صديقا ثابتا لروسية، وما توانت فرنسة منذ سنة 1871 في طلب محالفة روسية وصولا إلى مهاجمة ألمانية من جبهتين؛ ولذا قامت سياسة بسمارك في الأعوام الثمانية الأخيرة على الوقوف وسيطا بين الإمبراطوريتين الروسية والنمسوية مانعا «الحيوانين المجهزين» من أن يمزق كل منهما الآخر مجتنبا الانحياز إلى أي واحد منهما، وحديثا قال بسمارك لميتناخت: «إذا ما تدخلنا لمصلحة النمسة جعلنا روسية عدوة لنا لا يشفى لها غليل، فغدت حليفة لفرنسة.»

وجاء في آخر تقرير من سفير ألمانية بسان بطرسبرغ أن القيصر فيما كان يبدي ألمه من سوء التفاهم بين البلدين في الكتاب المذكور آنفا كان يذكر الجيش الألماني بالجميل في حفلة عشاء فشرب نخبه، وبسمارك منذ بضعة أشهر أخذ يرى آراء جديدة حول روسية مع ذلك، فصار يدنو من صديقه المجري أندارسي ويدعوه إليه في غاستن، ومن المحتمل أن كان حبه للانتقام من غورشاكوف هو الذي حفز إلى ذلك مع أنه لم يبق لهذا الأخير من السلطة سوى الشكل، وقد بدأ شعور بسمارك بالعداء نحوه منذ إيلامه إياه كما بينا ذلك سابقا، ثم اشتد ارتيابه من روسية بجحود هذا البلد بعد مؤتمر برلين، ثم زاد ارتيابه بسبب حملة الصحف وصعوبة رقابة الجيش الروسي وعظم نفوذ وزير الحربية الكاره لألمانية، ثم يأتي كتاب القيصر ذلك فيثير غضب بسمارك، ويهرع بسمارك إلى لقاء أندارسي.

وما كتبه بسمارك إلى مولاه من غاستن حول القيصر فيشتمل على أشد العبارات التي استعملها حول أي بلد أجنبي منذ أيام إمس، ومن ذلك «أنه لا معنى للألفاظ التي أعرب بها القيصر عن صداقته لجلالتكم بجانب وعيده المكشوف حول الحال التي لا تجعلون بها سياستكم تابعة لسياسة الروس، ولهجة بين الملوك مثل تلك هي نذير قطع للعلاقة عند عدم وجود معاهدات تحول دون ذلك، وما كانت المجاملة بين الملوك لتوجب اتخاذ لهجة أقسى من تلك حتى عند شهر الحرب، وإذا كان جواب جلالتكم بمثل تلك اللهجة وجدنا أنفسنا في حرب ضد روسية على الأرجح.»

ويصف بسمارك وزير حربية روسية بالعدمي الذي يمهد السبيل للنظام الجمهوري بزج روسية في حرب - على ما يرجح - ويعزى تحفظ روسية في سنة 1870 إلى ضغط النمسة، ويعدد ما قدمته بروسية إلى روسية من خدم، ثم يستخرج بسمارك نتائجه فيقول إنه كان، دوما، نصير الاقتراب من روسية لما بدا له من كون هذه السبيل أسلم من سواها، وهو يقول مع ذلك: «لنا من عوامل الصلة بالنمسة أكثر مما لنا بروسية، وما يربطنا بالنمسة من وشائج الدم والذكريات التاريخية واللغة الألمانية وتعلق هنغارية بنا؛ فيجعل محالفة النمسة أعظم حظوة في ألمانية - وأكثر دواما على ما يحتمل - من محالفة روسية، وما هنالك من علاقات أسرية وصداقة شخصية نحو القيصر إسكندر، فكان يميل الميزان إلى روسية حتى الآن، ونحن لما نراه من خطر يحيق بمزية محالفة روسية؛ نرى من الجوهري أن نعنى - بعض العناية - بصلاتنا بالنمسة.»

ويقرأ الإمبراطور تلك الكلمات فيذعر ويزيد الإمبراطور ذعرا عندما يجد بسمارك راغبا في الذهاب إلى فينة، ويبدي ولهلم من الصلابة غير المعتادة ما يقول معه: «لا أوافق على مثل هذه الخطوة مهما كان الأمر، فروسية إذا ما أبصرتني أصنع ذلك عدت عملي معادلا لقطع العلاقات!»

وتمضي بضعة أيام على ذلك، فيأخذ الإمبراطور من بسمارك برقية يقص فيها خبر محادثته أندارسي الذي يقترح عقد حلف دفاعي بين ألمانيا والنمسة تجاه هجوم تقوم به روسية، ويرتعب الإمبراطور، ويتفق من تلقاء نفسه هو والقيصر على الاجتماع في قرية واقعة على الحدود الروسية للحديث حول رسالة القيصر، ويثور غضب بسمارك تجاه فكرة هذا الاجتماع، ويكتب تقريرا مطولا في عشر صفحات من القطع الكامل يشرح فيه لمولاه سياسته الجديدة، ويذكر فيه حسد غورشاكوف وكتاب إسكندر التهديدي وخطر تحالف كالذي كان في حرب السنوات السبع، ويذكر فيه وجود صلات بالنمسة منذ ألف سنة كان قد أشار إليها في نقولسبرغ ، ويذكر فيه أنه يمكن كلا من ألمانية والنمسة أن تقوم بدفاع متقابل من غير أن تضطلع بالتزامات الأخرى، ثم يختم بسمارك تقريره بوعيد استقالته المعتاد قائلا إنه لا يستطيع أن يقوم بسياسة أخرى.

صفحة غير معروفة