«لا ألائم الملك لما يطلب من مداراته بلطف كبير!» فبهذه الكلمة التي قالها بسمارك قبل تعيينه بأربع سنوات، وحين صار ولهلم وصيا على العرش يذكر بسمارك لغرلاخ ما يعده تبديل أولياء الأمر له من المصاعب، وهل يناسب بسمارك بروسية؟ هذا هو السؤال العظيم الذي لم يجرؤ شلوزر مع حبه الممزوج بالحقد أن يؤكده بالإيجاب، ولكن الملك وحده هو الذي يستطيع أن يسلم إليه بروسية ليسوس أمورها، وعلى بسمارك أن يمسك ولهلم في بدء الأمر، ثم أن يحفظه بعد ذلك، وبسمارك يمسكه كالعاشق الحاذق الذي يداري الخليلة التي لا يطمئن إلى حبها له، أو كالمخترع الذي يداري الثري طمعا في إمداد اختراعه بالمال، ولا غنية لأحد الرجلين عن الآخر في اصطراعهما، ولكل من ذينك المتقاتلين المختلفين خلقا ، نصف فضل ونصف عبء في كفاحهما الصامت حول التسليم، لا حول السلطة، ولا يمكن تعيين أيهما أصلب من الآخر، آلملك الشائب الموهوب قليلا، والذي يحتمل، وهو سليل الملوك، وزيرا أصغر منه سنا ولا يعدو أمره حد الشريف أم ذلك القطب السياسي المقدام الذي يجب عليه أن يكابد تردد الملك. وإنما الذي يبدو هو أن الفارس الشيخ يحذر حصانه الرشيق وأن الحصان يجنح إلى الجموح، فيسيران في نهاية الأمر.
ويتناقش الملك ووزيره غير مرة فيتمسك كل واحد منهما بوجهة نظره التي تخالف وجهة نظر الآخر، ويفترقان متحاقدين، ولا يود كل منهما سوى التخلص من صاحبه، ولكن المرءوس إذا ما قدم استقالته إلى رئيسه خشي الرئيس مغبة الأمر وأذعن من فوره، وقد كان بين ذينك الرجلين ساعات حمق وحنق، ولا تجد لهذه الساعات سوى صدى ضئيل في مذكرات بسمارك.
وكان بسمارك يعلم ذلك مقدما، وذلك قبل أن ينال السلطة كل منهما، وبسمارك حتى حين وجوده سفيرا، كان يحسب ذلك فيما يعده للمستقبل من الخطط، والآن في كل يوم يتصل بسمارك بالملك من أجل العمل، فيمثل دوره، وبسمارك ذو علم عظيم بالرجال على العموم، وبسمارك جليس للملك على الخصوص، وبسمارك جندي بين وقت ووقت، فعليه أن يظهر متدينا؛ منعا لذعر الملك البالغ من العمر سبعين عاما، والملك - حتى في تلك السن - يبدي من الغضب في بعض الأحيان ما يدعك معه أوراق الدولة التي ينعم بسمارك، بعد الأزمة، نظره فيها متبسما مقدرا إمتاعها بجعادها،
1
شأن المصور الذي يرى متعة الوجه الذي يصوره في تكرشه، والاعتدال هو الذي تداوى به تلك النزوات، وهذا هو الذي أدركه بسمارك حديثا، ويحتمل بسمارك مليكه لما يعلمه من استقامته، ويصبر بسمارك على مليكه لما يجده من عدم مداجاته كفردريك ولهلم الذي كان يخادع وزراءه ويحرض بعضهم على بعض، وقد وثق ولهلم الأول ثقة مطلقة بذلك الذي احتمل أعظم مسئولية.
وكان بسمارك يعرف الملك حين قبضه على زمام الأمور، فلا يجد منه ما يفاجئه إذن، غير أن الملك لم يألف بسمارك إلا ببطوء ، والملك لم تزل مخاوفه من وزيره ذلك إلا بعد سنين، إلا بعد أن رأى من نجاح وزيره ذلك ما رأى، وما كان الملك ليرضى ببسمارك في بدء الأمر إلا كارها، وما كان أقرباء الملك وأصدقاؤه ليصنعوا في السنوات الأولى سوى العمل على تخليصه منه بسرعة، وأول ما حدث هو إرسال شيوخ الأحرار إلى الملك رسلا ثقات ليعزل وزيره الجديد. ومن المؤسف أن أبصر الملك الشيخ تحول عواطف رعاياه عنه، والملك في الأيام الأولى كان مكروها لوصفه ب «الأمير الرامي الرصاص»، فكان ينفر من تلك العواطف، ثم أخذ الملك ينال تلك العواطف في العصر المدعو بالحر، فلما مر على نصب بسمارك أربعة أشهر أخذ الملك كتابا من صديق قديم له جاء فيه: «إن الشعب مخلص لجلالتكم، ولكنه متمسك بحقوقه، فأدعو الله أن يبعد برحمته ما ينجم عن سوء التفاهم الهائل من النتائج السيئة.»
ويلهبه مثل تلك الكلمات، ويجعله التناقض أشد عنادا، ويضع خطين أو ثلاثة خطوط تحت العبارات المهمة، ويجيب بحماسة الشباب: «ما فتئت أكرر أن ثقتي بشعبي لا تتزعزع؛ وذلك لما أعرفه من ثقة هذا الشعب بي، ولكنني ألعن أولئك الذين يودون نزع حب شعبي لي واعتماده علي. وكل يعلم أن أولئك الذين يريدون فعل ذلك لا يتركون وسيلة لبلوغ ذلك. ألم أتنزل عن أربعة ملايين مع الأسف؟ ألم أتنزل عن أمور أخرى مع الأسف؟ يجب على من يتصرف في حقوقه على ذلك الوجه، أي من يخفض الميزانية بما تقف به أعمال الدولة، أن يقيم بمشفى المجانين، وأين النص في الدستور على أن الحكومة - لا النواب - هي التي تلزم بضروب التنزل؟» والملك لكي يكتب إلى أحد رعاياه غير الرسميين بمثل تلك الحميا، لا بد من أن يكون قد بلغ من عذاب الضمير ما يقض مضاجعه، والملك لا بد من أن يكون مغالبا للرب من أجل وزيره.
وفي أوقات الأزمات لا يدع بسمارك كتابا يقدم إلى الملك من غير أن يبتهل إلى الله، ويحل عيد الميلاد فيهدي الملك إلى بسمارك عصا فيشبهها بعصا هارون وإن لم توجد نسبة بين العصوين، ويرقب بسمارك قلب الملك دوما حين اتخاذ القرارات الكبرى، وذلك بعد أن يلقنه إياها مقدارا فمقدارا، فيضطر إلى اقتطاعها منه مع ذلك، ويكتب بسمارك إلى صديقه رون قوله: «إن فؤاد الملك في معسكر آخر، وأرى مشاعر الملك ضدي.» ويكتب بسمارك إلى رون قبل أمره بالتعبئة قوله: «إن من المأمول أن يصدر الملك أمره النهائي غدا؛ وذلك لأن الملك في خميس العهد لا يكون مستعدا لمثل ذلك العمل.» ويمضي بضع سنين فيقول بسمارك: «لقد أعيتني الحيل مرة أخرى، فعاد فؤادي لا يحتمل دوام مناضلة الملك.»
وما كان بسمارك في البداءة ليبادل ولهلم كرها بكره، وكان بسمارك يشعر بتفوقه فيكتفي بذلك على العموم، وكان هذا منهاج بسمارك، وبسمارك في شبابه قد تعود فحص بنية كل من يلاقيه، وبسمارك في شيبته يدرس صفات الناس النفسية ليتبين أنه أعلى منهم في جميع الأحوال والوجوه، ولم يلاق بسمارك عسرا في إقناع نفسه بأنه يسمو على ولهلم أميرا وملكا، بيد أنهما عندما أخذا يتقابلان ملكا ووزيرا لم ير بسمارك غير مداراة شعورين لا يمكنه أن يحتمل منصبه بدونهما، وهما: أن يرى في ولهلم ملكا وأن يبصر فيه أبا، ويكتب بسمارك إلى زوجه في الأيام الأولى من زواجه: «إننا حلفنا يمين الولاء لدمه.» ويصير بسمارك وزيرا فيجتمع بولهلم كل يوم، ويصبح مكلفا بحمايته وبظهوره ترسا لوقايته، وتشتد هذه المشاعر الرمزية بمنظر ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، ويتكلم أوتوفون بسمارك بعد سنين كثيرة عن صلته بالملك الذي يثور في الغالب فيشبهها بعلاقة الابن بأبيه الذي لا معدل له عن معاناة مزاجه ونزواته، غافلا عن أنه في شبابه لم يجد في نفسه ما يدعوه إلى الإذعان لأبيه مع حبه له.
بسمارك في سنة 1865.
صفحة غير معروفة