وكان الأمير يرقب مقدمه، فلم يكد يؤذن بحضوره حتى دعاه إليه ... - وأيقنت من صدق ذلك كله يا عتيبة؟ - ورأيت بعيني من دلائل اليقين. - وحدثك البطريق بخبره كله؟ - وحدثني بكل ما كان من قبل ومن بعد! - وعرفت خئولتك فردا فردا؟ - وعرفت خئولتي جميعا إلا فردا ... - من؟ ... - خالتي روديا. - روديا! ... - نعم، فتاة أخرى استباها العرب في غزاة معاوية. - وغاب عنه خبرها من يومئذ؟ - غاب عنه ... - ولا أثر يدل عليها؟ - جوهرة وقلادة كهاتين. - وماذا تنبئ عن خبرها جوهرة وقلادة؟ - مثل ما أنبأته جوهرة أمي وقلادتها. - ولكن أمك ولدتك واستحفظتك جوهرتها وقلادتها! - وتظن روديا لم تلد، ولم تستحفظ أحدا؟ - من يدري؟ - وا أسفا! - علام تأسف يا عتيبة؟ - لقد رجوت - منذ عرفت - أن يكون لي في المسلمين خالة آوي إلى مبرتها بعض أيامي، وأن يكون لي من ولدها خئولة أنتمى إليها! ... - إنك - ما علمت - لذو وفاء يا عتيبة؛ فأنا لك في كل ما أملت يا أخي. - وأين أنا منك يا مولاي؟ - ابن أخ أكدت الحادثات نسبه. - لا زال معروفك يطوق عنقي يا مولاي.
وأوشكت الدموع أن تنبثق من عيني الأمير، فهب واقفا ومال بوجهه ناحية، ونهض الفتى فاستأذن منصرفا إلى خيمته، وقد توزعته أشجانه.
وارتمى بثيابه على فرشه مكدود النفس، وحلق بالوهم في أجواء بعيدة ... ولكنه لم يلبث أن انتبه من سرحته على صوت حرسي يدعوه ثانية إلى لقاء الأمير، وكان أحد العربيين الطليقين في مجلس الأمير، وقد أبدل ثيابا بثياب، وسوى شعره وأحفى شاربه فبدا في منظر آخر غير ما كان منذ قليل ... - مولاي! - أتعرف هذا العربي يا عتيبة؟ - أحد الرجلين اللذين كانا ... - نعم، فهلا عرفت اسمه؟ - وما يكون اسمه؟ - عتبة ...
قال الرجل متمما: عتبة بن عبيد الله الرقي. - عمي؟ أبو نوار؟ - من نوار؟ إنما أنا أبو بشير! - نوار أخت بشير. - ابنتي؟ - ابنة عمي. - فأنت ... - عتيبة بن النعمان. - وماذا فعل النعمان؟ - مات ...
وتحيرت دمعتان في عيني الرجل، ولم يملك الأمير جأشه فأرسل دمعه كذلك، وقال الفتى وجسده يرتعد كله من الانفعال: وكنت في أسر البطريق يا عم كل هذه السنين؟ - نعم. - وكانت ابنة البطريق في أسر النعمان! - وي! - نعم، ولم يكن النعمان يدري ولم يكن البطريق ... - وماذا لو علما ...؟ - لو علما لم تبق سبيكة في دار النعمان حتى تلد له عتيبة، ولم يبق عمي في أسر البطريق. - فأنت ابنها إذن؟ - نعم. - وجدك البطريق؟ - أبو أمي. - ربحت صفقة البطريق!
الفصل التاسع عشر
وفاء النذر
وعاد عتيبة إلى الرقة مثقلا بالغنائم، لم يكن معه رأس بطريق لمهر نوار؛ ولكن معه أباها ...
ونشر على عيني أمه ما عاد به من طرائف الرحلة: هذه الدمية ... وهذه السلة ... وهذا الثوب ... - من أين لك هذا يا عتيبة؟ - من أبيدوس. - وما فعل أولئك القوم؟ - ضيفوا ولدك فأكرموه وبروه. - وعرفوا أمه؟ - وعرفهم ولدها. - وما فعل الله بأبي؟ - ما زال يحمل السيف، ويلزم الثغر، ويتعرض للشهادة! - وأين لقيته؟ - بين السيف والنطع! - أسيرا ... يقدم للقتل؟ - ولكنني فككت سراحه وحقنت دمه. - جوزيت من ولد بر. - ذاك جزاء معروفك وبرك. - ومن هذا الذي صحبك إلى الدار؟ كأنني أعرفه! - قد حدست ذلك ... إنه عمي عتبة. - عمك عتبة؟ وأين لقيته؟ - في أبيدوس. - قد ذكرته ... كان أسيرا في دار قسطنطين. - وكنت تعرفين أنه هنالك؟ - لم أكن أعرف أنه عمك! - ولم يكن أبوك يعرف أنك امرأة أخيه. - ثم عرف؟ - نعم ... بعد أن افترقا. - وعرف أنه أبو فتاتك؟ - لم أنبئه بعد ... - وتأمل أن تنبئه؟ - نعم، إذا خرجنا كرة أخرى لحرب الروم. - وتطيب نفسك بحربهم، وقد عرفت أن فيهم خئولتك؟ - قد كنت أعرف ذلك منذ بعيد. - وكتمت عني؟ - برا بك وإعظاما لأمومتك؟ •••
وكان الاحتفال بزواج عتيبة ونوار حاشدا، قد ركب له مسلمة من دمشق إلى الرقة في موكب من مواكبه، فأفاض من بره ولطائفه على العروسين الشابين وأهليهما ما كان حديث المدينة، ولقى سبيكة فتحدث إليها طويلا، لم تحتجب منه إلا بنقاب شفيف تجول من ورائه عيناها ...
صفحة غير معروفة