وكان رجلا في الأربعين، لم يطعن في السن، ولم تثقل كاهله السنون، قصيرا بطينا معتجر العمامة، قد أرسل لحية تضرب أطرافها على بطنه، فما يراه أحد في منظره ذاك، ويستمع إلى حديثه مسندا إلى الرواة من أبطال الفتح، إلا ظنه شيخا عميق الجذر، بعيد المولد والدار، إلا تكن له صحبة أو هجرة، فإنه لا بد قد عاصر وغزا واستظل في معارك الفتح بلواء الفوج الأول!
وكان عظيم القدر عند أمراء بني أمية في الشام، فهو جليسهم وجارهم ما أقام بدمشق، فإذا بدت له الرحلة إلى أي بلد من بلاد الإسلام، لم تزل صلاتهم وعطاياهم ترد عليه حيث كان، على أن أمير المؤمنين عبد الملك
5
كان أكثرهم عطفا عليه وصلات إليه، وكان يقول له: لسنا نحاول اصطناعك بهذا يا أبا داود، بل أنت اصطنعتنا بخالص ولائك وكريم بلائك؛ لنصرة بني مروان ... •••
وتكاملت الحلقة، وأخذ أبو داود يتنقل بالناس في قصصه من فن إلى فن، ومن واد إلى واد، فهو حينا في البر، وحينا في البحر، وطورا على ظهر البادية، وتارة في ظل حصن من حصون الروم، في المغرب أو في المشرق، وآونة في سهول الجزيرة، وفيافي العراق يصف كيد الخوارج
6
وتطاحن الفرق ... ثم قال:
7
ضل من فتنته دنياه عن دينه، وشغلته أولاه عن آخرته، وأزله الشيطان فأذله، وأطعمه السلطان فأضرعه! ...
8
صفحة غير معروفة