وبعد، فمن الذي يعوض سادتهم عن ضياعهم؟ أتعوضهم الدولة؟ أفي خزانتها كفاية من المال؟ أترى يعوضهم أبناء تلك الطريقة أم في وسعهم هذا التعويض؟ أم هم في سبيل الإنصاف الذي يزعمونه لأولئك العبيد يتجافون عن إنصاف أولئك السادة المظلومين؟ وهبونا أطلقنا عبيدنا، فماذا يصير من أمرهم بعد إطلاقهم؟ إن قليلا منهم من يعودون إلى بلادهم لعلمهم بالمصاعب التي تنتظرهم هنالك، وهم لا يؤمنون بديننا ولا يسيرون على نهجنا في حياتنا ولا يتبعون عاداتنا، ولا يقبل أبناء قومنا أن يدنسوا أنفسهم بمخالطة أنسابهم. فهل ترانا نستبقيهم بيننا متسولين في طرقاتنا؟ أو ترانا نترك أمتعتنا لمن يريد منهم أن يسرقها ويسلبها؟ إن الذين طال بهم عهد العبودية لن يعملوا لكسب أقواتهم إن لم يجدوا من يكرههم على العمل لها، وماذا لعمري في معيشتهم اليوم من السوء أو مما يستدر الرحمة والإشفاق؟ ألم يكونوا عبيدا في بلادهم قبل هذه البلاد؟ أليست بلاد الإسبان، والبرتغال، والفرنسيين، والإيطاليين مسخرة في طاعة حكام مستبدين؟ أليست إنجلترا تسوم ملاحيها سوم العبيد وتقبض عليهم حكومتهم كما تشاء لتحبسهم في سفن الحرب وتكرههم لا على العمل وحسب، بل على القتال من أجل رزق قليل أو مئونة تسد الرمق ولا تفضل في شيء ما نسمح به نحن للعبيد. فهل تسوء أحوالهم إذن لأنهم يقعون في أيدينا؟ كلا. بل قصارى الأمر أنهم يستبدلون رقا برق، وأقول: إنه لرق خير من رقهم لأنهم يعيشون هنا حيث تشرق شمس الإسلام في روعتها وبهائها، وحيث تتاح لهم الفرصة للاهتداء إلى الدين الحق والنجاة بأرواحهم من الهلاك. أما الذين يمكثون منهم في أرضهم، فلا أمل لهم في هذه السعادة، ولن يكون إرسال العبيد من بلادهم إلا كإخراجهم من النور إلى الظلمات.
وأعود فأسأل: ماذا عسى أن يصير من أمرهم؟ لقد سمعت من يقول أنهم يرسلون إلى القفار حيث تتسع الأرض لمعيشتهم ويقيمون أحرارا في أرضهم. على أنني أحسبهم لا ينشطون لعمل قط ما لم يدفعوا إليه على الرغم منهم، وإنهم لأغبى من أن ينهضوا بحكومة حرة لحكم أنفسهم، ولن يلبثوا أن يغير عليهم الأعراب من أهل البادية فيستعبدوهم، ولكنهم حين يقيمون في خدمتنا يلقون منا الرفق وحسن الرعاية على سنة الرحمة والمروءة، وليس للعمال في أوطانهم كما أعلم نصيب من ذلك، بل هم على نصيب قليل من الغذاء والمسكن والكساء، فهم على هذا تصلح أمور الأكثرين منهم بيننا، ولا حاجة بهم إلى ترفيه أو إصلاح حال؛ إذ هم هنا في أمان لا يجبرون على الجندية ولا على أن يعمل المسيحيون منهم في قطع رقاب إخوانهم المسيحيين كما يحدث فيما يشجر بينهم من الحروب. فإذا كان أناس من هؤلاء المجاذيب الذين يحتجون بالغيرة على الدين فيما بيننا قد حسن لديهم أن يرفعوا العرائض تترى للإفراج عن هؤلاء الأسارى فما كان ذلك من كرم فيهم ولا من مروءة ورحمة، وإنما هي أعباء ذنوبهم وخطاياهم يرزحون بها ويخيل إليهم أن هذا المطلب خليق - لما يتوهمونه من إحسانه وفضله - أن ينجيهم من الهلاك وسوء الجزاء .
وما أضل هؤلاء المتهوسين حين يحسبون أن الاسترقاق محرم في القرآن؟ أليس أمر السادة بالرفق وأمر العبيد بالطاعة والأمانة نصا على جواز الاسترقاق؟ كذلك لا يحرم في الكتاب سلب الكفار؛ لأن المعلوم منه أن الله قد وهب الدنيا وكل ما فيها لعباده المؤمنين يغتنمون ما افتتحوا منها.
فلا نستمعن بعد الآن لذلك الطلب البغيض، ولنعلمن أن إطلاق الأرقاء النصارى يسلط الكساد والخراب على أراضينا وبيوتنا، ويحرم الكثيرين من رعايانا الأمناء طيبات أرزاقهم، فيثير القلق في النفوس، ويغري المتذمرين بالفتنة، ويزعزع مكانة الحكومة، ويعم الديار بالفوضى والاضطراب، ولا يخامرني الشك - لهذا - في أن هذا المجلس الحكيم يؤثر سعادة الأمة المؤمنة كلها على إرضاء فئة من أبناء الطريق، ويعرض عما يطلبون.
ولقد كان من أثر هذا الكلام، كما أنبأنا مارتن في سجله، أن الديوان انتهى إلى هذا القرار:
إن القول بأن سلب النصارى واسترقاقهم ظلم ومجافاة للعدل، إنما هو على الأقل من الأقوال المختلف عليها، ولكنه من الواضح أن الإبقاء على هذه الحالة في مصلحة الدولة. فلا تقبل تلك العريضة بناء على هذا الاعتبار.
وعلى هذا رفضت العريضة.
ولما كانت البواعث المتشابهة تميل بعقول الناس إلى ما يشببها من الآراء والقرارات، أفلا يجوز لنا - يا مستر براون - أن نستخلص من ذلك أن العرائض التي أرسلت إلى برلمان إنجلترا لإلغاء النخاسة، ولا نذكر ما عدا ذلك من المطالب، وشيكة أن تصير كما تصير المناقشات فيها إلى مصير كهذا المصير.
إنني يا سيدي قارئك المثابر وخادمك المتواضع:
3
صفحة غير معروفة