وسأل جفرسون: من جون تومبسون هذا؟
فعاد فرنكلين يقول: جون تومبسون هذا صديق قديم، كان يتتلمذ على معلم مشهور بصناعة القبعات، ثم خطر له أن ينفرد بالعمل ويفتتح له دكانا يكتب له إعلانا جامعا يجتذب إليه طلاب القبعات. فكتب الإعلان وقال فيه: «إن جون تومبسون قبعاتي، يصنع القبعات ويبيعها نقدا». وراح يعرض الإعلان على أصدقائه ليسألهم رأيهم فيه، فقال له أولهم: إنه لا حاجة به إلى كلمة «قبعاتي» ما دام في الإعلان أنه يصنع القبعات ويبيعها، وقال له الصديق الثاني: إن الناس لايهمهم أنه صانع القبعة ما داموا يجدونها أمامهم معروضة للبيع، وقال له الثالث: إنه من السخف أن يقول «يبيعها نقدا» ما دام معروفا عنه أنه لم يكن من أصحاب المصارف التي تقرض على الحساب، وقال له الرابع: إنه ما من أحد ينتظر منه أن يتبرع له بالقبعة إحسانا، أو هدية، فما حاجته أن يقول أنه يبيع القبعات؟ وبقي الإعلان هكذا بعد كل هذه التنقيحات: (جون تومبسون. قبعات) فقال له الصديق الخامس: إنه لا حاجة إلى كلمة قبعات ما دامت صورة القبعة مرسومة في الإعلان، وانتهت النصائح والتعديلات ببقاء اسم جون تومبسون وإلى جانبه صورة قبعة، وهكذا تنتهي بلاغة البلغاء كلما عرضوها على الناس للتنقيح وإبداء الآراء.
وهذه القصة - وحدها - كلمات فارغة لا يقرؤها أحد ويظن أنها تساوي أن ينفق فيها وقت استماعها، ولكنها في ذاكرة فرنكلين وضعت في موضعها فصلحت لتفريج أزمة، ودفع سآمة وتجديد نشاط في نفس عظيمة، ولم يستطع فرنكلين أن يصنع بها هذه المعجزة لأنه يعرف حكاية تروى، وإنما استطاع المعجزة لأنه اتخذ من تلك الحكاية أداة للطبيعة السمحة المفطورة على تذليل الصعاب، وتقدير المعاذير، وقبول الدنيا على علاتها وأخذ الناس جملة بما طبعوا عليه من الهنات.
ونحن لا يفوتنا في معرض الكلام على الأخلاق الفطرية ، أو الأخلاق الموروثة، أن نقرر تلك الحقيقة المشهودة التي يتوقف عليها إنصاف «الشخصية الإنسانية» وتقويم كل ترجمة من تراجم العظماء بقيمة صاحبها، ونعني بتلك الحقيقة المشهودة أن الخلق الموروث لا يلغي المزايا الفردية ولا ينقص من فضل الفرد في الانتفاع بما ورث مع اختلاف الزمن وتبدل المواطن والمناسبات التي ينتفع فيها بتلك المزايا. فإذا استطاع الفرد في الجيل الحاضر أن يستخدم مزاياه الموروثة التي كانت نافعة لآبائه قبل جيل أو جيلين فلا بد من فضل له في حسن الاستخدام وحسن الاحتفاظ بما آل إليه من تراث الأقدمين، وإذا كان الحطام الموروث قابلا للضياع، أو كان الغالب عليه أن يضيع ولا يبقى، فالأخلاق الموروثة تضيع كما يضيع الحطام إذا آلت إلى المفرط فيها والعاجز عن صيانتها، وقد توضع الفطنة في غير موضعها فتضر ولا تنفع، وتجور الشهوات على الجثمان القوي فتنهكه، وقد يكون الشعور بالقوة من بواعث الشطط والتمادي في الغواية، وقد كان مساك الاعتدال في خلائق الآباء والأجداد.
وفرنكلين لم يضيع ما ورث ولم يحتفظ به كما ورثه، بل نماه وثبته وقواه، وعاش إلى ختام أيامه بثروته النفسية وعليها أضعاف مضاعفة من ثمرات السنين.
رآه شاب من شارلستون يسمى فيليب ماكنزي وهو في السبعين فكتب إلى صديق له يقول: «إنه يقارب خمس أقدام وتسعة قراريط، وبدنه أضخم مما يناسب طوله، وعيناه رماديتان نفاذتان كالصلب الحديد. وله رأس كبير وجبين عال وعلى خده الأيسر خال. لا يلبس الشعر المستعار وشعره الطبيعي مرسل يتدلى على كتفيه، ومن الغريب أنه لم يخطه الشيب إلا قليلا مع أنه في السبعين، وقد تحدث إلى أعظم العظماء في العالم، ولكنه كان يصغي إلى تعليقاتي الغريرة كأنها تستحق الإصغاء حقا، وقد أبديت ملاحظتي هذه بعد انصرافه لصديقي ايد روتلدج فضحك وقال لي: «إياك أن تخطئ فهمه. إن الدكتور فرنكلين كان مهتما حقا وأنت لا تعرف، فإنه ليهتم بكل شيء وكل إنسان، ويعنيه من تكون أنت وماذا عملت في حياتك».»
2
واهتمام فرنكلين هذا الاهتمام بكل شيء وبكل إنسان ، هو موطن العجب والإعجاب بتلك القدرة التي صمدت لمهام الحياة طوال ذلك العمر المديد، ولم تبخل على مهمة منها بحقها من العناية ولا على أحد بحقه من المبالاة، وبقي الرجل بعد هذه التكاليف جميعا وكأنه في وهم من يراه لا يهتم بشيء ولا يكثرث لخطب ولا يرى على حال من القلق والاضطراب.
وليس أكثر من الحوادث والأنباء التي اعترضت هذه الحياة في مراحل طريقها، بل طرقها العديدة. وليس من اللازم للتعريف به أن نحصيها ونرتبها على حسب تواريخها، فكل ما يهمنا في ترجمة العظيم من حوادثه وأنبائه أن تصور لنا جانبا من جوانب شخصيته وسرا من أسرار عظمته واقتداره، وسنتحرى ذلك فيما سنكتبه عن فرنكلين العالم، وفرنكلين الكاتب، وفرنكلين السياسي، وفرنكلين الفيلسوف، ونكتفي بالسلسلة التالية من أرقام السنين ومعالم الطريق لمراجعة المواقيت كلما دعت الحاجة إليها في مناسباتها، وهذه هي كما نقتبسها من تقويم سيرته في كتاب رجال أمريكا تأليف ليونل الفين، وهو تقويم واف في بابه لمن يتتبع مراحل الطريق من هذه السيرة:
السنة
صفحة غير معروفة