ظهرت الكتابة في القارتين الأمريكيتين في وقت لاحق بعض الشيء عن ظهورها في آسيا، رغم أن كلا من ممارسة الزراعة ونشأة المجتمعات المستقرة بدأتا في الأمريكتين منذ سبعة آلاف عام على الأقل، لكن ربما كان عدم وجود وديان أنهار واسعة هو العامل الرئيسي وراء تأخر نشأة الحضارات المدنية في تلك المناطق. رغم ذلك نهضت أخيرا دول ما قبل عصر كولومبوس في القارتين الأمريكيتين، ويماثل نموها الأنماط المشهودة في الحضارات المدنية للعالم القديم إلى حد باهر.
حضارات المايا والأزتيك والإنكا وغيرها من حضارات ما قبل عصر كولومبوس هيمنت على جيرانها بوسائل العنف؛ فقد كانت كلها مجتمعات هرمية التسلسل مقسمة إلى طبقة دنيا من عمال مزارعين وطبقة عليا من الأرستقراطيين بالوراثة الذين كانوا يمسكون بزمام الحكم في المراكز الحضرية، في حين كان هناك طبقة من رجال الدين المحترفين الذين يمارسون الطقوس الدينية في معابد متقنة البناء. ولم تحتفظ هذه المجتمعات بسجلات مكتوبة فحسب، وإنما وضعوا كذلك أشكالا متقدمة من الرياضيات والكتابة والعلوم الفلكية، حتى إن شعب المايا كان قادرا على حساب أحداث فلكية ستقع في المستقبل البعيد.
وبحلول عام 400 قبل الميلاد، كان شعب المايا يستخدم أحد أشكال الكتابة بالرموز الذي تطور في النهاية إلى نظام في نفس تعقيد أي من الأنظمة التي تطورت في العالم القديم (انظر شكل
7-8 ). وقد تكونت كتابة المايا من مئات الرموز التي كانت تدمج معا في صور معقدة تسمى «الصور الرمزية»؛ شكل من الكتابة الحقيقية المستخدمة في التعبير عن الأرقام والأشياء والأفعال والأصوات.
شكل 7-8: كانت الكتابة الهيروغليفية البالغة التعقيد لحضارة المايا تكتب على ألواح من لحاء الأشجار المسطح (أعلى)، وكذلك تنقش على واجهات المعابد الحجرية (أسفل). (الصورة السفلى منشورة بموجب رخصة المشاع الإبداعي الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
من العصر الحجري إلى البرونزي
رغم أنه جرت العادة لزمن طويل على تقسيم تاريخ البشر بأكمله إلى عصر حجري وعصر برونزي وعصر حديدي، فإن الفروق بين هذه العصور الثلاثة من ناحية حياة البشر ليس كبيرا بالدرجة التي قد توحي بها أسماؤها. وقد نشأت هذه الطريقة في تصنيف تاريخ البشر عام 1825م، حين صك جامع التحف القديمة الدنماركي، كريستيان جيرجينسين تومسين، هذه المصطلحات لتكون طريقة ملائمة لتصنيف مجموعات القطع الأثرية القديمة حسب ترتيب زمني معقول. كان هذا قبل أن يقترح داروين ووالاس نظرياتهما بشأن التطور، وقبل اكتشاف بقايا بشر النياندرتال وغيرهم من بشريي عصور ما قبل التاريخ، وقبل تطور علم الآثار الحديث بزمن طويل.
في الواقع، استطاعت الإنكا والمايا والأزتيك وغيرها من المجتمعات المتقدمة في الأمريكتين أن تنشئ حضارات متطورة مع الاستمرار في الاعتماد الشديد على أدوات وأسلحة مصنوعة من الأحجار. وكانت صناعة الأدوات المعدنية في تلك المجتمعات مقتصرة بدرجة كبيرة على صهر المعادن الرخوة مثل الذهب والفضة والنحاس وتشكيلها؛ إذ يمكن إذابة هذه المعادن في نيران الأخشاب العادية التي يسخنها العمال بشدة بنفخ الهواء فيها من خلال أنابيب طويلة، لكنها كانت تفتقر إلى الصلادة والصلابة الضروريتين لصنع أدوات وأسلحة فعالة.
هكذا، في المكان الذي كان موقعه الجغرافي مؤاتيا، كانت الحياة الزراعية المستقرة كافية - حتى مع غياب الأدوات والأسلحة المعدنية - لتشجيع ميلاد حضارات، بما يكملها من دواوين الدولة، والديانات المنظمة، والحروب المنظمة، والتجارة البعيدة المدى، وأنظمة الكتابة، والمعرفة المتقدمة بالرياضيات والفلك، إلا أن تطور التعدين في وديان الأنهار القديمة لعب بالفعل دورا مهما في تطور الحضارات المدنية، ليس فقط بتزويدها بأدوات وأسلحة فائقة، وإنما بتحفيز الابتكار في تقنيات النقل على الأخص، التي كانت ضرورية من أجل ممارسة التجارة بين مجتمعات واقعة في مناطق جغرافية متباعدة.
بدأ تشكيل المعادن أولا في الشرق الأوسط منذ نحو عشرة آلاف عام مع صهر شذور النحاس الموجودة في الطبيعة في جبال شرق تركيا وشمال سوريا وطرقها؛ فالنحاس معدن رخو يسهل تشكيله، ومن خلال التسخين المتكرر لشذور النحاس في نيران الأخشاب العادية، كان يمكن طرقها بسهولة لتحويلها إلى أشكال متعددة. في البداية ، كانت الكميات الصغيرة من النحاس التي يمكن استخراجها من الرواسب الطبيعية تكفي فقط لصنع الخواتم والخرز والدلايات المستخدمة في الزينة الشخصية، وكان للنحاس أثر ضئيل في النواحي التقنية الأخرى والحياة الاقتصادية.
صفحة غير معروفة