كل من التحولات الأربعة التي جرت من قبل غيرت الطبيعة البيولوجية لأسلافنا إلى حد كبير؛ فقد حولتنا تقنية الرماح وعصي الحفر من حيوانات رباعية الأرجل إلى ثنائية الأرجل. ونتج عن تقنية النار والطهو أن فقدنا شعر أجسادنا، وحدثت زيادة ضخمة في حجم أدمغتنا، كما حدث تحول في بنيتنا التي كانت مهيأة لتسلق الأشجار. أيضا مكنتنا تقنية الملابس والمأوى من الهجرة من المناطق المدارية، وجعلت من الممكن لمواليدنا «المبتسرين» البقاء على قيد الحياة في المناخ البارد. واشتملت تقنية التواصل بالرموز على تغييرات مهمة في أدمغتنا، فحررتنا من وتيرة التطور البيولوجي البطيئة، ومكنتنا من الاستفادة من سرعة التطور الثقافي ومرونته.
لكن طوال ملايين السنين التي استغرقتها كل هذه التغيرات البيولوجية المهمة، لم تتبدل طبيعة مجتمع أشباه البشر ولا علاقة أشباه البشر ببيئتهم الطبيعية تبدلا ملحوظا؛ فخلال النهار ظل الذكور البالغون يسلكون نمط حياة يعتمد على الصيد بالاقتناص، في حين ظلت الإناث البالغات يبحثن عن نباتات قابلة للأكل. وفي الليل ظلت مجموعات صغيرة من الأقارب تجتمع في مقرات سكنهم للاحتماء من الضواري. ومن حين لآخر كانت الجماعة من أشباه البشر تهجر مقر سكنها وتنتقل لموقع جديد؛ بحثا عن موارد أكثر وفرة للغذاء.
لكن حين اقترب العصر الحجري القديم من نهايته مع تراجع العصر الجليدي الأخير، حررت البشرية نفسها من الحاجة للانهماك الدائم في البحث عن شيء لتناوله، التي تحد حياة كل الحيوانات الأخرى وتقيدها؛ فحين جعلت تقنية الزراعة بإمكان البشر إنتاج غذائهم وتخزينه للمستقبل، ألقى نوعنا عن كاهله العبء الذي كان يحمله، مع كل الحيوانات الأخرى، منذ نشأته.
متحررين من البحث اليومي عن الغذاء، استقر أسلافنا في مستوطنات دائمة ضمت المئات بل الآلاف من الناس، وتعلموا الاشتغال بالفنون والحرف، وبدءوا يتضاعفون. ومكنتنا تقنيات النقل والاتصالات الجديدة والقوية من بناء المدن والتضاعف أكثر لنبني حضارات هائلة مكونة من مئات آلاف الأشخاص. وأتاحت لنا تقنية الآلات الدقيقة إمكانية إنشاء دول قومية صناعية حديثة تضم ملايين الأشخاص؛ ونتيجة لذلك تضاعفنا سريعا حتى بات مستقبلنا البعيد في خطر الآن. وبفضل التطور الحديث للتقنية الرقمية - التي منحتنا القدرة على التجارة مع كل أفراد النوع البشري وزيارتهم والتواصل معهم - أصبح بإمكان البشرية الاندماج في مجتمع عالمي واحد، لأول مرة في تاريخنا.
ما كان لأي من هذه التحولات في المجتمع أن يحدث مطلقا لو كان البشر استمروا في حياة الصيد وجمع الثمار التي بدأها نوعنا، إلا أن مسببات هذا الظهور المفاجئ للزراعة، التي جعلت بإمكان المجتمع البشري أن يخطو أولى خطواته على الطريق لتحول اجتماعي بالغ، ما زالت واحدا من الألغاز الكبرى التي تكتنف قصة البشر.
لغز الزراعة
في الفترة ما بين 12000 و4000 عام مضت، أقدم عدد من المجتمعات البشرية المختلفة، التي كانت تعيش في مواقع متباعدة جدا، على هجر أسلوب حياتها السابق الذي اعتمد على الصيد وجمع الثمار، وبدءوا يزرعون غذاءهم. قدم العلماء العديد من النظريات المختلفة والمتناقضة في كثير من الأحيان لتفسير هذه المصادفة الجديرة بالملاحظة، لكن بعد عقود من النقاش ما زال هناك عدم اتفاق حول الأسباب المحددة التي جعلت البشر حول العالم يقدمون على هذا التحول الكلي من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة في هذا الوقت.
لاحقا في هذا الفصل، سوف أشرح لماذا قد يكون اكتساب اللغة - وخاصة ملكة الحكي - هو ما مكن البشرية من الإقدام على هذا الانتقال من البحث عن الغذاء إلى الزراعة في هذه المحطة بالذات من تاريخها، لكن أولا لا بد أن نرى بعين الاعتبار النظريات التي قدمت في السنوات الأخيرة لتفسير تقنية إنتاج الغذاء الحديثة. ورغم أن العلماء قد يختلفون بشأن المسببات، فإنهم متفقون على أن الزراعة بدأت في الشرق الأوسط منذ نحو أحد عشر ألف عام، في قطاع من الأرض وفير المياه يسمى «الهلال الخصيب». وهذا هو المكان الذي ستبدأ فيه قصتنا.
تبلغ مساحة الهلال الخصيب نحو مائة ميل عرضا وقرابة ألف ميل طولا. ويبدأ من مصر، في الطرف الشرقي من البحر المتوسط، وينتهي عند العراق في الطرف الشمالي للخليج الفارسي. ولما كان الهلال الخصيب واقعا على الممر بين أفريقيا وأوراسيا مباشرة، ولما كان موطنا لأولى الحضارات القديمة، فقد لعب دورا هائلا في تاريخ البشرية منذ هاجر البشر الناشئون إلى أوروبا وآسيا، وذلك منذ أكثر من مليون عام ونصف.
إحدى النظريات الأولى التي فسرت نشوء الزراعة زعمت أن الفلاحة نشأت في الهلال الخصيب لأن بيئة تلك المنطقة كانت في مرحلة جفاف؛ مما جعل العدد المتناقص من الناس والحيوانات ينتقلون إلى الواحات، حيث اضطروا للعيش على مقربة شديدة بعضهم من بعض، وحيث بدأ البشر يربون هذه الحيوانات من أجل الحصول على الغذاء، لكن افترضت نظرية لاحقة أن إنتاج الغذاء لم يبدأ في الواحات، وإنما في الخاصرة الجبلية للهلال الخصيب؛ لأنها كانت منطقة تعيش فيها الأسلاف البرية لبعض من أولى النباتات والحيوانات التي استؤنست، ومنها القمح والشعير والكتان والبازلاء والعدس والماشية والماعز والخراف والخنازير.
صفحة غير معروفة