في الخطاب الحديث نستخدم كلمة «تقنية» بوجه عام عند الإشارة إلى أعقد آلات الحياة الحديثة وتراكيبها وأدواتها وآلياتها وعملياتها؛ أشياء على غرار المركبات الفضائية والأنظمة الآلية والعمليات الكيميائية والشبكات الحاسوبية والأجهزة الإلكترونية، لكنني استخدمت كلمة «تقنية» في هذا الكتاب كما عرفها اختصاصيو علم الإنسان وعلم الرئيسيات، الذين صادفوا تقنيات سابقة للصناعة في مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار القديمة وفي المجتمعات البدائية لقردة الشمبانزي البرية. بناء على هذا وصف اختصاصيو علم الإنسان التقنية - في أوسع وأشمل معانيها - بأنها التعديل المتعمد لأي شيء أو مادة طبيعية بترو لتحقيق غاية محددة أو خدمة غرض بعينه. دائما ما اعتبر اختصاصيو علم الإنسان الأدوات والأسلحة والملابس ومساكن مجتمعات الصيد وجمع الثمار تقنيات حقيقية. ويتبع هذا الكتاب هذه الرؤية التقليدية بحرص.
على عكس التقنيات البسيطة جدا التي يستخدمها الشمبانزي وسائر الحيوانات، تنطوي أغلب التقنيات البشرية على عمليات معقدة ومواد متعددة تستخدم معا لتحقيق غاية محددة. على سبيل المثال كان القوس والسهم المستخدمان فيما قبل التاريخ مصنوعين عادة من رءوس حجرية وريش طيور مثبتة على الطرفين المتقابلين لعود خشبي بصمغ نباتي ومربوطة معا بأوتار حيوان، ولم يكن كل من هذه المواد تشتق من مصدر مختلف فحسب، لكن كانت تحتاج إلى عملية خاصة في استخراجها وتحضيرها أيضا، إلا أننا دائما ما نعتبر القوس والرمح تقنية واحدة. كل من التقنيات الثماني الرئيسية التي جاء وصفها في هذا الكتاب هي في الواقع مجموعة معقدة من الأشياء والعمليات؛ ما يربط كلا منها معا ككيان واحد هو الغرض المشترك الذي اخترع كل منها من أجله واستخدم.
أشباه البشر أم أسلاف الإنسان أم الهومينينا؟
طوال المائتين وخمسين سنة الماضية كانت كل الرئيسيات ذات القدمين والمنتصبة القامة تماما في شجرة العائلة البشرية تسمى أشباه البشر (الهومينيد)
hominids ، وهي كلمة مشتقة من المصطلح اللاتيني
Hominidae (ويعني بالعربية أشباه البشر) الذي عرفه في الأصل عالم التاريخ الطبيعي السويدي كارلوس لينيوس، الذي وضع الطريقة العلمية الحديثة لتصنيف الأنواع. وظل العلماء والكتاب لعقود عدة يستخدمون مصطلح «أشباه البشر» في الإشارة لكل الأنواع ما قبل التاريخية والحديثة، التي تسير وتركض في انتصاب كامل متحررة الذراعين واليدين، على نحو فريد بين الحيوانات العليا، لصنع الأشياء وحملها.
لكن تغير المعنى القديم لمصطلح «أشباه البشر» في تسعينيات القرن العشرين، حين أدخلت تجديدات رئيسية على تصنيف السعادين والقرود التي تنتمي إلى رتبة الثدييات المسماة بالرئيسيات؛ إذ جعلت التطورات في تحليل الحمض النووي في تسعينيات القرن العشرين تقدير المسافة الجينية بين أحد الأنواع ونوع آخر بدقة أمرا ممكنا، ولما تبين أن المسافة الجينية بين البشر والقردة العليا - مثل الشمبانزي والغوريلا - قليلة نسبيا، فقد عدل التصنيف بدرجة كبيرة.
وفي التصنيف الجديد ألغيت البنجيدات - الفصيلة البيولوجية التي ضمت في الماضي الشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب - ووضعت كل هذه الأنواع جميعها مع البشر في فصيلة أشباه البشر؛ لهذا لم يعد مصطلح «أشباه البشر»، في لغة المتخصصين، يعني «فصيلة إنسان العصر الحديث وإنسان ما قبل التاريخ»، وإنما يعني الآن بالمعنى الدقيق «فصيلة إنسان العصر الحديث وما قبل التاريخ والشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب».
وبمجرد أن صار مصطلح الأناسي أو أشباه البشر غير مقتصر على الحيوانات ذات القدمين، بدأ اختصاصيو علم الإنسان وعلماء الحفريات يستخدمون مصطلح «أسلاف الإنسان» في الإشارة إلى بشر العصر الحديث وما قبل التاريخ، لكن مع الأسف لدى مصطلح «أسلاف الإنسان» مشكلة «أشباه البشر» ذاتها بالضبط؛ لأن فصيلة أشباه البشر لا تشتمل فقط على البشر، وإنما الغوريلا والشمبانزي أيضا، ولا تشتمل فصيلة أسلاف الإنسان على البشر فقط، ولكن على الشمبانزي أيضا.
من ثم لا يشير أي من «أشباه البشر» أو «أسلاف الإنسان» بالمعنى الدقيق إلى بشر ما قبل التاريخ والعصر الحديث بصفة حصرية. في الواقع ، المصطلح العلمي الوحيد المتبقي الذي يشير حصريا إلى البشر منتصبي القامة ذوي القدمين، سواء في العصر الحديث أو ما قبل التاريخ، هو فصيلة الهومينينا، لكن يمكننا أن نلتمس عذرا للكتاب والعلماء الذين ما زالوا يواجهون صعوبة مع التغيير من «أشباه البشر» إلى «أسلاف الإنسان» لإحجامهم عن الانتقال مرة أخرى إلى مصطلح «هومينينا» غير المستخدم والمعروف فقط لدى القلة، لا سيما حين نضع في الاعتبار أن فصيلة الهومينينا قد يلم بها المصير نفسه الذي حاق بأسلافها. اقترح بعض العلماء أن يعاد تصنيف الشمبانزي باعتباره نوعا من جنسنا؛ جنس الهومو. إن حدث هذا فحتى الهومينينا سيضم الشمبانزي؛ الحيوان الرباعي الأرجل غير المؤهل للحركة على قدمين على نحو صحيح وغير القادر عليها، والذي لا يمكن إجازته كفرد من أفراد العائلة البشرية في أبعد ضروب الخيال.
صفحة غير معروفة