تستخدم أغلب الحيوانات ذوات الدم الحار رئتيها وجهازها الصوتي لإنتاج أصوات معينة تنقل رسائل محددة، مثل التحذير والإعلان عن منطقتها والتودد والخطر والمحنة . ويشيع استخدام الأصوات الملفوظة في إبلاغ رسائل محددة بصفة خاصة بين الأنواع التي تعيش على الأشجار مثل الطيور والرئيسيات، فتستطيع أنواع عديدة من الطيور - منها الببغاوات والطيور المحاكية والغربان والغدفان - إصدار مجموعة كبيرة من الأصوات المختلفة، كل منها يهدف لتبليغ رسالة من نوع محدد. ينطبق الشيء نفسه على أغلب أنواع القردة والسعادين، لكن أكثر هذه الرسائل الصوتية تأتي بالفطرة، وتشمل القليل من التعليم أو من دونه.
رغم أنه لا يوجد دليل على أن أشباه البشر الأوائل استخدموا أي شكل من التواصل بالرموز، فإن ثمة بعض الأدلة التي تشير إلى أن البشر الناشئين كانوا قد بدءوا يجربون الرسم والتصميم فعلا؛ ففي اثنين على الأقل من مواقع الهومو إريكتوس عمرهما نصف مليون عام على الأقل، عثر اختصاصيو علم الحفريات على بعض التصاميم البسيطة على عظام وأصداف يمكن تفسيرها بأنها استخدام للرموز. وسوف نتناول تلك الأدلة بالفحص لاحقا في هذا الفصل.
حتى النياندرتال، الذين كانوا بشرا حديثين بأدمغة بشرية مكتملة الحجم، تركوا عددا صغيرا من القطع الأثرية التي توحي بأنهم كانوا قد بدءوا يفهمون الأشياء ذات المغزى الرمزي ويجربونها. تتألف الأدلة على السلوك الرمزي بين بشر النياندرتال في أغلبها من أصداف ذات ثقوب نقبت فيها ولونت بأصباغ طبيعية، غالبا لارتدائها كقلادات.
لكن حين ظهر الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا قبل نحو فترة تتراوح بين 50 ألف و40 ألف عام مضت، صارت حياة بشر ما قبل التاريخ ثرية بغتة في استخدام الرموز؛ فالتماثيل البشرية المصغرة كانت تنحت من الأحجار أو العاج وتشكل من الطمي. أما الأغراض التي كانت تصنع من أجل الزينة الشخصية فكانت تصنع من الأصداف وأسنان الحيوانات التي كانت تثقب، وتلون بأصباغ، وترتدى كأنها حبات في أساور وقلائد. وبالنسبة إلى الأغراض النفعية مثل أداة رمي الرماح
1
فكانت تزين بزخارف دقيقة وتنحت على شكل الحيوانات. وكانت جدران العديد من الكهوف في أوروبا مزينة بكثافة؛ إذ انتشرت فيها طبعات الأيدي والمئات من رسومات الحيوانات المحاكية للواقع لدرجة مذهلة، وآلاف الزخارف المنحوتة أو المرسومة في شكل رموز أو أيقونات، تسمى نقوشا حجرية.
2
كذلك يعطي الانتشار المفاجئ لاستخدام الرموز دليلا على أن أشباه البشر كانوا قد بدءوا لأول مرة على الإطلاق يطورون ثقافات وإثنيات مميزة؛ فالتماثيل المصغرة والزخارف والنقوش الحجرية ورسومات الكهوف التي تعود إلى هذه الحقبة تميل للتنوع الملحوظ في الأسلوب والشكل من منطقة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى. وهذه التنوعات جعلت من الممكن التعرف على ثقافات معينة من حيث الزمان والمكان؛ لأول مرة يصير من الممكن تحديد هويات قبلية وإثنية مميزة في أطلال الجماعات البشرية التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ.
وأخيرا، كان هذا، لا شك، الزمن الذي اكتمل فيه تطور اللغة والموسيقى، أو بعبارة أخرى الاستخدام الرمزي للأصوات؛ فتعطي بقايا المزامير التي صنعت من العظام والعاج في عصور ما قبل التاريخ دليلا دامغا على أن الإنسان الحديث تشريحيا كان يعزف الموسيقى - وربما يغني ويرقص أيضا - منذ عشرات آلاف السنين. أما اللغة، لكونها غير ملموسة، فإنها لا تترك دليلا ماديا ليتبينه عالم عصور ما قبل التاريخ، ولا سبيل لمعرفة متى بدأ أشباه البشر يتحدثون على وجه التحديد. يعتقد بعض العلماء أنه كان ثمة أشكال مبكرة من اللغة تحدث بها البشر الناشئون، بل وربما حتى أشباه البشر الأوائل، لكن هذا الأمر لم يحسم إلى الآن.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه رغم أن القدرة على تعلم الرموز وابتكارها تكمن في الحمض النووي للإنسان الحديث تشريحيا، فإن شكل الرموز التي ابتكرها الإنسان الحديث ومعناها مسألة ثقافية تماما، وليس لها أساس في علم الأحياء؛ فكل المعاني التي تتضمنها الرسائل الرمزية، سواء كانت بصرية أو سمعية، لا بد أن تعلم في الطفولة، وتتذكر في مرحلة البلوغ، وتتوارثها الأجيال بصفتها المعرفة الثقافية التي تتقاسمها الفئة الاجتماعية. لو كان من الممكن سماع ضحك بشر ما قبل التاريخ لعرفنا أنهم سعداء، ولو كان ممكنا سماعهم وهم يبكون لعرفنا أنهم حزناء، لكن لو تسنى لنا سماعهم يتحدثون لما فهمنا ما الذي يقولونه، تماما كما ننظر إلى النقوش الحجرية التي نحتوها ورسموها على جدران كهوفهم، ولا ندرك مطلقا ماذا كان يقصد بهذه النقوش المرسومة بعناية.
صفحة غير معروفة