بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية

جورج أورويل ت. 1450 هجري
128

بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية

تصانيف

آفاق التاريخ الرقمي

لا يوجد في مجال الاتصالات البشرية شيء يحدد الطريقة التي سترى بها أجيال المستقبل عصرنا أكثر من الأنظمة الرقمية الموجودة حاليا لتسجيل السجلات الثقافية لزمننا وتخزينها واسترجاعها؛ إذ يتراكم حاليا يوما بعد يوم سجل كامل بالسلوكيات والأعراف ومنظومات القيم التي سادت في زماننا، محفوظة بدقة رائعة في شكل نصوص وصور وتسجيلات صوتية وأفلام وفيديوهات رقمية، بكميات لم يكن ليتخيلها الناس في الأجيال السابقة نهائيا.

الفرق الأساسي بين التاريخ وعصور ما قبل التاريخ هو بقاء سجلات مكتوبة من فترات تاريخية، في حين لم يبق من أزمنة ما قبل التاريخ سوى قطع أثرية، وليس سجلات مكتوبة. هكذا يبدأ التاريخ، حسب هذا التعريف، في أزمنة مختلفة في أماكن مختلفة؛ فقد بدأ في مصر ومنطقة الهلال الخصيب باختراع الكتابة المسمارية والهيروغليفية نحو عام 3200 قبل الميلاد، وبدأ في الصين بتطور الكتابة لدى ثقافة لونجشان عام 3000 قبل الميلاد تقريبا، وبدأ في الهند بابتكار كتابة وادي السند عام 2700 قبل الميلاد بالتقريب، وفي شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك بتطور كتابة شعوب المايا نحو عام 400 ميلاديا.

لكن للأسف يطرح هذا التعريف الشائع مشكلات شائكة؛ فعلى سبيل المثال، هل بدأ تاريخ الصين والهند مع تطور أقدم أنظمة كتابة لهما، رغم أن هذه الأشكال من الكتابة لم تفك رموزها قط؛ أم من المفترض أن يبدأ مع أقدم أشكال كتابة هذه المناطق التي أمكن فك رموزها، رغم أنها جاءت بعد عدة قرون من بدء استخدام الكتابة استخداما واسعا؟

وماذا عن الثقافات التي كانت متقدمة ثقافيا وتقنيا لكنها لم تترك خلفها آثارا مكتوبة؟ فالثقافات الكلتية في أوروبا العتيقة، على سبيل المثال، كانت شعوبا زراعية متقدمة لديهم نظام طبقي متطور ومعرفة معقدة بتشكيل المعادن سواء البرونز أو الحديد. ومع بداية القرن الأول الميلادي كانت الثقافة الكلتية قد انتشرت في أنحاء أوروبا من المجر حتى الجزر البريطانية. ورغم أن الإغريق والرومان كانوا على معرفة بالكلتيين وكتبوا عنهم كثيرا، فإن الكلتيين أنفسهم لم يستخدموا الكتابة. ورغم ذلك سيكون من المضلل بالتأكيد أن يقال إن الثقافة الكلتية من ثقافات ما قبل التاريخ.

أما مؤرخو المستقبل فسيدرسون القرن الحادي والعشرين وهم يتنفسون الصعداء؛ فعام 2000م يميز قرب بداية أفق التاريخ الرقمي، الذي تتوافر بعده المعلومات المسجلة لكل المجتمعات البشرية لأجيال المستقبل بتمام ودقة منقطعتي النظير. على النقيض من ذلك، أكثر التاريخ المسجل قبل عام 2000م مجتزأ وغير مكتمل.

لا يمكن دراسة تاريخ البشر منذ اختراع الكتابة في حضارات وادي النيل والهلال الخصيب القديمة وحتى اختراع التصوير الفوتوغرافي في أواخر القرن التاسع عشر، إلا من بقايا ناقصة ومعيبة من لوحات مرسومة يدويا، ومخطوطات مكتوبة، وكتب مطبوعة، ودوريات . وكل ما بقي منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر القرن العشرين، من أسطوانات جرامافون وأفلام وبرامج تلفزيونية لتلك الأيام، هي في الغالب مواد أرشيفية مطموسة وغير واضحة المعالم وتالفة في أحيان كثيرة، كانت مخزنة في الأصل على تسجيلات أصلية وأفلام وشرائط مغناطيسية. غير أن أغلب هذه المواد الأرشيفية التي تعود إلى القرن العشرين قد حولت إلى صيغة رقمية وتحولت إلى ملفات على الكمبيوتر؛ لضمان عدم استمرار تدهورها أكثر من ذلك على الأقل.

حتى اختراع التقنيات الرقمية، كانت كل الطرق المستخدمة في صنع نسخ من المعلومات المسجلة تعاني من نفس القصور، وهي أنه في كل مرة تصنع نسخة كانت بعض المعلومات تضيع. وكان هذا معناه أن النسخة لا يمكن أبدا أن تكون بجودة الأصل، والنسخ من النسخة كان أسوأ، وهكذا دواليك. كان كل جيل من النسخ أقل جودة من الجيل السابق له، وهكذا كلما زاد عدد نسخ الشيء كانت جودة النسخة أسوأ. كان هذا ينطبق على الميكروفيلم والنسخ التي كانت تعد لمواد مكتوبة أو مطبوعة على ورق، والنسخ الفوتوغرافية للصور والأفلام، ونسخ التسجيلات الرئيسية والشرائط المغناطيسية وشرائط الفيديو. وحيث إن كل هذه الأشكال من وسائط التخزين كانت مصنوعة إما من الورق أو البلاستيك، فإنها دائما ما كانت تصير هشة وحائلة اللون وعديمة الفائدة في النهاية مع مرور الوقت.

لكن حين تطورت تقنيات لتحويل كل أشكال الوسائط إلى صيغ رقمية كادت تختفي مشكلات صنع نسخ للنصوص والصور وتخزينها. فمتى خزن نص أو صورة أو تسجيل موسيقي أو فيديو على كمبيوتر أو جهاز نقال، يتحول إلى صيغة رقمية؛ أي إنه يتحول إلى كتلة من الآحاد والأصفار المنتظمة بترتيب معين لتمثل النص أو الصورة المعنية. وعند نسخ ملف الكمبيوتر يعاد استنساخ نسق الآحاد والأصفار المحدد كما كان في الأصل بالضبط دون أخطاء؛ ومن ثم دون فقد الدقة. بناء على ذلك، بصرف النظر عن عدد مرات نسخ ملف الكمبيوتر، سوف يظل دائما مكونا من نفس نسق الآحاد والأصفار كما كان من قبل، وسيظل النص أو الموسيقى أو الصور أو الفيديوهات التي تمثلها هذه الآحاد والأصفار كما هي بالضبط.

ما دام الوسط الذي تخزن عليه هذه الملفات عادة ظل سليما من الناحية المادية وقابلا للقراءة - سواء كان شريحة كمبيوتر أو قرصا صلبا أو قرصا مدمجا أو وسيط تخزين لم يخترع بعد - فلن تبلى النسخ أو تضيع أبدا. وحتى إن بدأ وسيط التخزين نفسه يزداد قدما بعد مرور عدة سنوات، يمكن منح الملفات حياة جديدة بنسخها مرة أخرى ببساطة على وسيط تخزين جديد. فحتى إن لم يحدث مزيد من التطور في تقنيات التخزين على أجهزة الكمبيوتر، وهو احتمال بعيد، فإن كل كلمة مكتوبة أو تسجيل موسيقي أو صورة أو فيديو موجود حاليا في شكل ملف كمبيوتر يمكن تخزينه لمئات آلاف السنين.

صفحة غير معروفة