بداءة عصر البطالمة: محاضرة ألقيت في المؤتمر الثامن للمجمع المصري للثقافة العلمية
تصانيف
كان أشقر الشعر فأضفت عليه هذه الصفة صبغة أوروبية . ويغلب أنه كان ربلا ممتلئ الجسم، وفي ملوك هذا البيت نزعة إلى الربالة، تصيبهم في أخريات أيامهم. أضف إلى ذلك ضعفا تكوينيا، وإن شئت فقل: ميلا إلى الإفراط في العناية بأمر صحته، صرفه عن الجهد البدني وكره بسببه الكد والنصب.
ومضت أكثر أيام حكمه ومصر في حروب متعاقبة، ولكنها كانت تحت إمرة قواد جيوشه البرية ، أو أمراء بحريته. ولم يقد بطلميوس الثاني جيشا، متأسيا بما فعل أبوه من قبل أو بما كان معاصروه من الملوك، مثل أنطيوخس الأول (191) أو أنطيغونس غوناطس (192)، إلا مرة واحدة، زحف فيها حذاء النيل إلى مصر العليا.
ولم يلبث غير قليل حتى اكتنفت سياسته أعاصير عنيفة، رجفت منها الممالك الحافة بشرقي البحر المتوسط. ففي سنة 201ق.م اشتبك الشيخان الباقيان من جيل الإسكندر، «سلوقوس» (193) و«لوسيماخوس» (194)، وقد حطم كلاهما الثمانين في حربهما الأخيرة، وسقط «لوسيماخوس» وبقي «سلوقوس» بغير خصيم - كما لاح إذ ذاك - يصده عن أن يتبوأ مكانة الإسكندر من الدنيا. وكان موقف أقض مضجع بطلميوس الصغير، وبخاصة أن أخاه «بطلميوس قراونوس» (195) كان مع «سلوقوس»، ومما لا يبعد، بل مما هو قريب أن يؤيد «سلوقوس» دعواه في الأحقية بعرش مصر. ولكن الآية انقلبت سراعا، وسادت الدنيا فوضى غامرة عندما اغتال «بطلميوس قراونوس» الشيخ «سلوقوس» في الدردنيل، فأنقذ هذا الحدث ملك مصر وأيد موقفه؛ فإن الخطر كل الخطر، كان في «سلوقوس» ولكن مطامع «بطلميوس قراونوس» قد انصرفت عن مصر، واتجهت نحو مقدونيا. وكانت «أرسنوية» أرملة «لوسيماخوس» وشقيقة بطلميوس الثاني، وأخت «بطلميوس قراونوس» من أبيه، لا تزال من مقدونيا عاقدة العزم على أن تحتفظ بالعرش الشاغر لولدها. وكانت قد تخطت طور الفتوة، وهي بعد أميرة مقدونية على ما وصفنا الأميرات المقدونيات من قبل، وفيها من افتراس النمرات أثر غير قليل. ولكن «قراونوس» بذها مكرا وافتراسا، فتزوج منها أول الأمر، ثم قتل ابنها من «لوسيماخوس»، ولجأت «أرسنوية» إلى معبد «سموثراقية» (196).
وتبع ذلك تعقيدات مروعة، فقد أغارت جماهير من أهل الغال (197) المستوحشين مما وراء البلقان، واكتسحت مقدونيا وإغريقية وآسيا الصغرى . وفي فيض هذه البربرية قضى «بطلميوس قراونوس» نحبه سنة 280، وقامت معارك متشابكة متهاوشة فترة من الزمان، تسنم خلالها «ملياغار» (198) أحد أبناء بطلميوس الكبير ذروة الملك شهرين اثنين، ثم انحدر إلى حيث طواه ظلام القرون.
وظهر في الميدان شخص آخر هو «أنطيفاطروس» (199)، من أبناء عمومة «قصندر» (200)، تسنم عرش مقدونيا أشهرا قلائل، فلما سقط فر لاجئا إلى الإسكندرية ، وفيها عرف باسم «أطسياس» (201)، وهي كنية أطلقت عليه، وأصلها اسم رياح موسمية تعصف خمسا وأربعين يوما. ولقد عثر بالمصادفة على قرطاس بردي، ثبت منه أنه كان ظهير رجل يصنع كعوب النرد للعبة تدعى لعبة العاشق (202).
أما في آسيا الصغرى وشمال سورية، فقد عمل «أنطيوخس الأول» ابن سلوقوس من زوجته «أفاما» الفارسية جاهدا في أن يثبت قدمه في ملوكية أبيه؛ فإن سلطانه في آسيا الصغرى كان مرتجا غير مستقر، وكان مظهر سلطانه الرئيس يتجلى في حروب يشنها على دويلات نشأت حديثا من إمارة وطنية تظهر هنا، أو أسرات فارسية تطفر هنالك، إلى الإمارة الإغريقية التي نشأت تحت إمرة «فرغامن» (203)، ناهيك بجماهير أهل الغال بغارتها التخريبية. وفي النهاية، وبعد نصف قرن من الزمان قضاه العالم في فوضى غامرة بعد موت الإسكندر، قرت الدنيا الحافة بشرقي البحر المتوسط في ظل مجموعة من الدول مستقرة استقرارا نسبيا، فحكم في مقدونيا بيت «أنطيغونس»، وفي آسيا الصغرى وما بين النهرين وبابلونيا وفارس بيت «سلوقوس»، وفي بقاع أخرى من آسيا الصغرى أسرات موضعية جديدة، وفي مصر وفلسطين وقبرص بيت «بطلميوس». أما في إغريقية، وفي الجزر المنشورة على شواطئ بحر أيغا (204)، وفي البوسفور (205) والبحر الأسود، فإن دويلات المدن القديمة كانت تعيش في ظل حريات، قد يزيد قدرها أو يقل بنسبة ما تهيئ لها الظروف أن تنفض عن عاتقها عبء الخضوع لإحدى الدول الملكية.
وفيما بين هذه الدول العظمى نشطت المنابذات السياسية والحربية طوال حكم «بطلميوس الثاني». وكانت مصر «المقدونية» (206) في أوج قوتها وعظمتها. ولكن الأخبار التي كان من الممكن أن نحيك منها رواية كاملة في الدور الذي مثله «ملك الشمس» وقواده وسفراؤه في رقعة الدنيا قد عدمت جميعا، وكل عمدتنا في ذلك على خلاصات غير وافية حررها كتاب متأخرون، فكانت إشارات تذكر عرضا، أو محررات شتيتة متفرقة، غاية مستطاعنا أن نستخلص منها إلمامة، يصدع فيها النقص الكمال ويرهق فيها الإبهام اليقين.
إن مطامع بيت «بطلميوس» في أن يبسط سلطانه على بقاع معينة من آسيا الصغرى، وفي أن تظل له السيادة البحرية، وفي أن يتدخل تدخلا فعليا في سياسة العالم الإغريقي، قد منع عليه أن يظل بعيدا عن مغامرات السياسة الخارجية. وفي فترة بين سنتي 279 و274ق.م تسلطت على البلاد الإسكندري إرادة أقوى من إرادة «بطلميوس»؛ فقد هبطت مصر شقيقته «أرسنوية» بعد أن ضاع كل أمل لها في أن تكون ملكة في مقدونيا، وفي نفسها - على الأرجح - عزم على أن تصبح ملكة في بيت أبيها. وكان في مصر ملكة هي «أرسنوية» ابنة «لوسيماخوس» (207) وزوجة «بطلميوس»، غير أن هذا الأمر لم يكن عقبة تقف في وجه امرأة من طراز أرسنوية ابنة «بطلميوس الأول»؛ فإنها استطاعت من قبل سنوات أن تكتسح «أغاثوكلس» من طريقها بأن حملت أباه على أن يقتله؛ جزاء تهمة كاذبة. وكانت «أرسنوية لوسيماخوس» قد أنجبت من بطلميوس ثلاثة أولاد؛ ابنان: بطلميوس ولوسيماخوس، وابنة: هي برنيقية. ولكنها - برغم هذا - اتهمت بالتآمر على حياة الملك زوجها، وقتل اثنان اتهما غدرا بالتواطؤ معها: شخص يدعى «أمنتاس» (208)، و«خروسبوس الرودسي» (209) طبيبها الخاص، ونفيت الملكة إلى بلدة «قفطوس» (210) بمصر العليا.
وكان «مهفي»، أول من كشف عن لوح مصري، عثر عليه في «قفطوس»، يشير إلى أرسنوية الأولى بما يأتي:
هذا تذكار «سنخرود» (211) المصري، الذي أثبت في سيرة كتبها عن نفسه أنه كان حارسها، وأنه شيد لها محرابا وجمله. وعلى الرغم من أن هذه السيدة كانت تدعى: «زوجة الملك العظيمة التي تملأ جوانب القصر بجمالها، وتغمر قلب الملك بطلميوس بالطمأنينة والغبطة»، فإنها لم تنعت بأنها «محبة أخيها» (212). ومما هو أنكى من ذلك أن اسمها لم يحو في خرطوش ملكي، كما يجب أن يصنع في أسماء الملكات.
صفحة غير معروفة