بداية المجتهد ونهاية المقتصد

ابن رشد الحفيد ت. 595 هجري
170

بداية المجتهد ونهاية المقتصد

الناشر

دار الحديث

رقم الإصدار

بدون طبعة

مكان النشر

القاهرة

يُعَارِضُهُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ، وَكَوْنَهُ رُخْصَةً يُعَارِضُهُ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا أَوْ سُنَّةً، وَكَانَ هَذَا نَوْعًا مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، وَقَدِ اعْتَلُّوا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْمَشْهُورِ عَنْهَا مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ، وَرَوَى عَطَاءٌ «عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ وَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ» وَمِمَّا يُعَارِضُهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَأَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: اصْطَحَبْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُتِمُّ وَبَعْضُهُمْ يَقْصُرُ وَبَعْضُهُمْ يَصُومُ، وَبَعْضُهُمْ يُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ. أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، (وَهِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْقَصْرُ)، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْصَرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْكُوفِيُّونَ: أَقَلُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ سَارَ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ تَأْثِيرِ السَّفَرِ فِي الْقَصْرِ أَنَّهُ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ مِثْلُ تَأْثِيرِهِ فِي الصَّوْمِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ الْقَصْرُ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ. وَأَمَّا مَنْ لَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ إِلَّا اللَّفْظَ فَقَطْ، فَقَال: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﵊: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» فَكُلُّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ كَانَ يَقْصُرُ فِي نَحْوِ السَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى خَامِسٍ كَمَا قُلْنَا وَهُوَ أَنَّ

1 / 178