وتسمرت في مكانها وجسمها ينتفض انتفاضا؛ فقدت سلطان الإرادة على جسدها وروحها وعواطفها، وبدا لها الأمر كحلم، أو هذيان مرض، أو حال لا تمت بصلة إلى عالم الحقيقة؛ هذا شارع وهذه شجرة وهذا مصباح وهؤلاء بعض السابلة، أشياء هذه أم أشباح؟! إنها لا تدري، بدا كل شيء بعيدا عن الواقع والحقيقة. ولعلها لم تثب إلى وعيها إلا حين انفجرت باكية بدموع حارة ملتهبة صاعدة من أعماق صدرها.
34
كان سلمان يمسح الطاولة حين رأى ظل شخص ينعكس عليها؛ فرفع رأسه فرأى حسن واقفا حياله، وسرت في جسده قشعريرة رعب فكأن صاعقة انقضت على رأسه، وكان حسن يقف بقامته الطويلة، منفوش الشعر، وقد حال لون بدلته من كثرة الاستعمال، ينبعث من عينيه نور حاد ينم عن العنف والجرأة، وقال سلمان لنفسه: «إني هالك، إذا كانت نفيسة قد أفضت إليه بسرها فساعتي قد دنت ولا شك.» ونظر إليه كما ينظر الفأر إلى القط دون أن ينبس، وقال حسن بصوت مرتفع رن في أذنيه رنينا مؤلما مخيفا: السلام عليكم.
ورد جابر سلمان من وراء مكتبه قائلا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. كيف حالك يا سي حسن؟
وذهل سلمان في خوف عن رد التحية، وقال لنفسه: «ما هذه بتحية؛ هي نذير، رباه كيف تعرضت لفتاة لها مثل هذا الأخ؟!»
وقال حسن: الحمد لله. لقد جئتكم لأحدثكم في أمر هام جدا ...
إنه يعلم بهذا الأمر، وعما قليل يعلم أبوه بالفضيحة؛ ها هو الشيطان يقترب، لقد رفع طرف الطاولة ومرق إلى الدكان، لا يفصله عن قبضة يده شبر! أية حماقة جعلته يعتدي على نفيسة؟ ليته يمهله حتى يرفض الزواج ويصلح خطأه، ومال حسن على المكتب معتمدا حافته بكلتا يديه، وردد بصره بين الأب والابن، وسلمان مطرق في توقع مروع للضربة المتجمعة، وقال حسن: علمت أن زواج سلمان قريب؟
فقال عم جابر: إن شاء الله، العقبى لك. - وليلة الفرح؟ - قريبا جدا إن شاء الله. - فنقر حسن بإصبعه على المكتب وقال بجرأة: نحن جيران يا عم جابر، وأحسبني خير من يحيي هذه الليلة!
واتسعت عينا سلمان الصغيرتان؛ إنه لا يصدق أذنيه، ألهذا الغرض جاء؟ كيف غاب عنه أن نفيسة تفضل الموت نفسه على البوح بسرها لهذا الأخ الجبار! وندت عنه ضحكة، وأردفها بأخرى ثم انفجر ضاحكا ضحكا عصبيا لم يتمالك معه نفسه حتى التفت حسن وأبوه نحوه في دهشة وإنكار، وسرعان ما أمسك. ثم خاطب حسن قائلا في أريحية وسرور: لا كانت الليلة إن لم تحيها أنت.
وابتسم حسن في رضا، وخاف الأب عواقب هذا الوعد الأحمق، فقال: على العين والرأس يا سي حسن، لا يمكن أن يوجد مانع من ناحيتنا، ولكنني أخشى أن يكون لوالد العروس رأي آخر.
صفحة غير معروفة