وجعل يسأل عما كان وصاه به قبل ذهابه إلى الوزارة من إجراءات تستدعيها الوفاة، ثم تأبط ذراعه وذهبا معا.
4
وعند اقتراب موعد الجنازة بلغ الاضطراب بحسنين مداه، اضطراب من نوع جديد، كان يشغله عن الحزن نفسه. كان يرجو لأبيه جنازة رائعة تليق بمقامه وبمكانته هو، التي يحب أن يظهر بها أمام الناس. لم يكن أخواه ليكترثا كثيرا لهذا الأمر، أما هو فكان يعد إخفاق الجنازة كارثة كالموت نفسه؛ غضبا لأبيه الذي يحبه، ولنفسه هو. وقلب عينيه فيمن تجمع من المشيعين فلم ير أحدا يملأ العين إلا جارهم الكريم فريد أفندي محمد، أما زوج خالته فكان في حكم العمال، وليس عم جابر سليمان البقال بخير منه، والحلاق أدهى وأمر، ونفر غيرهم غيابهم أشرف من حضورهم. وانقبض صدره وغشيه كدر عميق. ولكنه كان قليل الصبر، فما وافت الساعة الرابعة حتى تدفقت جماعات الموظفين حتى سدوا عطفة نصر الله سدا. وردت إليه الروح فعاد إلى حزنه خالصا من القلق. ثم حدث ما لم يدر له في حسبان، فجاءت سيارة فخمة تنطق بالعز والجاه، ووقفت على بعد يسير من البيت وغادرها ساع ففتح بابها، ثم نزل منها رجل ينم مظهره على الألقاب والرتب. وتقدم بجسمه الطويل العريض الذي عقدت عليه الخمسون هالة من وقار فهرع إليه الإخوة بأدب، واندس بينهم فريد أفندي محمد ليحظى باستقبال الشخصية الممتازة التي ينبغي أن يقدرها - كموظف - أكثر من سواه، وتساءل القادم في صوت منخفض: أليس هذا بيت المرحوم كامل أفندي علي؟
فبادره فريد أفندي قائلا باحترام: بلى يا سعادة البك.
ولم يجدوا ما يقدمونه له إلا كرسيا خيزرانا على قارعة الطريق، فشعروا بحرج غير قليل. وكان حسنين قد امتلأ ارتياحا لمقدمه، ولكنه وجد ضيقا لسؤاله عن بيت المرحوم؛ مما دل على أنه لم يكن يعرف البيت، واقترب من أخيه حسن يسأله: من يكون هذا الرجل؟
فقال حسن: أحمد بك يسري، مفتش عظيم بالداخلية، وصديق حميم للمرحوم.
فسأله بغرابة: لماذا سأل عن البيت كأنه لا يعرفه؟
فحدجه حسن بنظرة غريبة وقال: كان والدنا كثير التردد على بيته، أما هو .. إنه رجل عظيم كما ترى!
وصمت الشاب لحظة ثم استدرك قائلا: كان المرحوم يحبه ويعده أعز صديق.
وتناسى حسنين هذا، ولم يشأ أن يفسد على نفسه زهوها، وود لو يراه - ذلك المفتش - المشيعون جميعا. ثم حلت اللحظة المفجعة، فخرج النعش من البيت وعلا الصوات من الشرفة والنوافذ. انتظمت الجنازة بالمشيعين جميعا يتقدمهم النعش. وعلقت أعين الشقيقين بالنعش في ذهول وإنكار، وتساقط دمعهما طوال الطريق. وبلغوا المسجد فأخذوا في توديع المشيعين وشكرهم. وأظهر البعض استعدادا لمرافقة النعش حتى مستقره الأخير، ولكن حسنين همس في أذن أخيه الأكبر قائلا: لا تسمح لأحد بالذهاب مهما كلفك الأمر.
صفحة غير معروفة