وابترد صدره بلذة الارتياح والأمل: «الشاي والسكر. السكر خاصة، بل السكرية. سأتحقق اليوم مما إذا كانت تتعمد الظهور أمامي!» وأمر الغلام أن يطالع وبدأ الدرس، وأصغى إليه دقائق ثم مضى يغيب عنه؛ «هل أطلب شايا؟ قلة ذوق! ولكن إذا تأخر الشاي فلا بد من طلبه، إني مضطرب أكثر مما ينبغي. إننا وحيدان في الشقة أنا وهي. لا يخدش هذه الوحدة سالم أو الخادم الصغير، فنحن وحيدان. فلأنعم طويلا بهذه الوحدة الخيالية. لو كانت الدنيا بسيطة كبساطتها الحلوة الأولى لقمت إليها وأخذتها بين ذراعي، وسألتها باطمئنان كامل أن تكشف لي عن ساقيها، ما الذي يجعلني أحجم عن رغبة كهذه؟ هذا سخف الدنيا الذي قتل أبي وأنزل بنا ما نحن فيه.» وانتبه إلى سالم وهو يسأله عن معنى كلمة فذكر له معناها، وأمره أن يواصل المطالعة. وقبل أن يغيب عنه صوت الغلام سمع وقع أقدام تقترب فاتجه بصره ناحية الباب المفتوح، ثم رأى صينية الشاي تتقدم حاملها، ووقع بصره على الساعدين اللتين تحملانها فخفق قلبه خفقة عنيفة، ونهض قائما كمن به مس، وجاءه صوت رقيق وهو يخطر نحو الباب يقول بصوت كالهمس: سالم.
فظهر حيالها وهو يتفحصها بنظرة عارمة ثم همس: ألف شكر.
وتورد الوجه الأبيض المائل للشحوب، ولعله لم يتوقع ظهوره، ثم غضت بصرها في ارتباك، ومد حسنين يده فتناول الصينية، فأطبقت يده اليمنى على أصابع يسراها، وسرى مسها في يده، وذراعه، وجسمه، وروحه، في أقل من الثانية. ولم تقف به جرأته عند حد فضغط على أصابعها ضغطة غير خافية، فاستخلصت يدها في استياء، وفي وجهها عبوسة، وتحولت عن الباب في حدة الغضب. وعاد إلى الخوان بالصينية شديد التأثر، ثم جلس على مقعده وهو يقول للغلام في ارتباك: استمر. «ترى هل تعجلت الأمر قبل أن ينضج؟ ما أقل صبري! هكذا أنا دائما، يا لها من عبوسة! عبست وتولت. إن يكن حياء فهو عز المنى، وإن يكن حنقا فلعله الختام. هيهات أن أتراجع! هيهات أن يطيب لي التردد أبدا، لماذا جاءت بنفسها؟ لماذا لم تكلف الخادم بحمل الصينية؟ جاءت لي أنا. هذا واضح، لا داعي للخوف.» وكان ينتبه إلى سالم في أويقات متقطعة، ويلقي عليه بعض الأسئلة، ثم يغيب عنه في قلق يراوح بين الإشفاق والسرور. ولما أن انتهى الدرس خطرت له فكرة فصمم على تنفيذها دون تردد. ونهض قائما، وغادر سالم الحجرة ليوسع له الطريق فأخرج منديله من جيب معطفه وتركه على المقعد، ثم غادر الشقة، ولكنه لم يبرح مكانه بعد إغلاق الباب؛ وقف يرهف السمع إلى خطوات الغلام حتى ضاعت، وتريث لحظة ثم نقر على الباب. وانتظر وقلبه يثب وثبا من شدة الخفقان. «إذا جاءت الخادم ضاع تدبيري هباء، ولكن من المحتمل أن تأتي هي، أمري لله.» وأضاء نور الصالة وسمع وقع أقدام قادمة ثم فتح الباب. هي، ولم يبال ما ارتسم على وجهها من آي الدهشة، ولم يضيع وقته سدى فتساءل في رقة وإشفاق: أخاف أن أكون أغضبتك!
فتراجعت خطوة دون أن تفتح فاها، فقال بعجلة: لا أطيق أن تغضبي أبدا.
فغمغمت في استنكار كأنها لا تحتمل أن يوجه إليها خطابا: لا، لا، لا، هذا كثير!
ولم يستطع أن يتكلم؛ لأن سالم ظهر على عتبة الغرفة اليسرى وهو يتساءل: جاءت ماما؟
فقال حسنين بصوت مرتفع: نسيت منديلي في الحجرة!
وجرى سالم إلى الحجرة، وسارعت الفتاة بالعودة إلى الداخل، ثم جاءه الغلام بالمنديل فتناوله، ومضى وقد نسي أن يشكره.
18
ورفع حسين رأسه عن المكتب وتفحصه بدهشة ثم سأله: ما لك؟
صفحة غير معروفة